يوم تسلّم هشام المشيشي مهامه كرئيس حكومة، يوم 3 سبتمبر، باعتباره “الشخصية الأقدر” التي اختارها رئيس الجمهورية لتشكيل الحكومة كان معدل التحركات الاحتجاجية اليومية في حدود 17 احتجاجا. وقد نجح الرجل الاقدر بعد 100 يوم من توليه مهامه في الترفيع في هذا المعدل بنسبة تناهز 152 ٪.المتأمل في هذا “المنجز” يفهم ان الرجل الأقدر خسر أولى معاركه في إدارة شؤون البلاد ألا وهي إكتساب خطاب تواصلي مطمئن ولا يحرّض الناس على الاحتجاج والخروج للشوارع ولكن حصل العكس حيث أثار كل خروج إعلامي لرئيس الحكومة أزمات تواصلية مع الشارع.
ويشير المنحنى اليومي للاحتجاجات الاجتماعية المرصودة طيلة المئة يوم إلى ان الرجل لم ينتظر طويلا كي يغذّي الحراك في الشارع بل إن المعدل اليومي للاحتجاج زاد خلال الثلاثة أسابيع الاولى من توليه المنصب بنسبة 240 ٪ وقد تزامن ذلك مع تطور الوضع الوبائي لفيروس كوفيد 19 وارتفاع عدد الاصابات والوفايات كما ترافق هذا الزمن بالدعوة المبكرة لإجراء تحويري وزاري. وبعد شبه استقرار في منحنى التحركات الاحتجاجية اليومية، في حدود حوالي 30 تحرك احتجاجي، بدأ التصاعد التدريجي منذ 14 نوفمبر ليبلغ اقصاه خلال اسبوع مسجلا زيادة بنسبة 350 ٪ مقارنة بالمعدل اليومي للاحتجاج المسجل يوم تسلم الرجل الأقدر مهامه. وقد تزامن هذا التصاعد في نسق الاحتجاجات مع إعلان الحكومة توصلها لاتفاق جديد مع حراك الكامور انتهت بمقتضاه ازمة غلق “الفانا” في صحراء تطاوين واستئناف الضخ للشركات البترولية بعد أزمة استمرت أربعة أشهر. كما سجلنا خلال 100 يوم وصول 4685 مهاجرا نحول السواحل الإيطالية منهم 761 من القصر كما تم منع اجتياز 4352 مهاجرا انطلاقا من السواحل التونسية.
مشهد اتصالي ضعيف
كان يمكن لهشام المشيشي ان يظهر، وهو يخطب من ثكنة العوينة مساء 9 نوفمبر ليعلن التوصل لهذا الاتفاق المهم، في هيبة الرجل الأقدر القادر على إدارة أزمة إجتماعية معقدة تمثّل حصاد عشر سنوات من الأخطاء والتراكمات والخيارات الاقتصادية والاجتماعية الفاشلة والتي تواجه حكومته اليوم وزر نتائجها ولكنه ظهر في مشهد اتصالي ضعيف وظهر بمظهر من لا يدرك حقيقة الوضع في البلاد. بدا هشام المشيشي في ذلك الخطاب فاقدا لأي خلفية بخصوص حقيقة خارطة الفقر في البلاد والمسؤول الذي لا يُظهر نباهة ومعرفة دقيقة بالملفات التي يديرها لا يمكنه ان يكسب ثقة المتلقي وهذا ما حصل في تجربة المشيشي بعد اتفاقه مع حراك الكامور.
وعكس ما ذهب إليه الكثيرون في قولهم بان التفاعل مع حراك الكامور غذى التحركات الاحتجاجية وعودة نشاط بعض الحركات الاجتماعية على غرار الصمود 2 في ڤابس مثّل الخطاب الاتصالي لرئيس الحكومة كلمة السر في ما حصل لاحقا. فالرجل اثبت مما لا يدع مجالا للشك بان حكومته ستتفاعل مع من يحتل الشارع اولا لان خطابه يوم 9 نوفمبر لم يكن موجها لاصحاب الحقوق في كل شبر من البلاد حيث جُمِّدت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للناس وساد التهميش والفقر والجوع والفساد والتهرب الضريبي والاقتصاد الموازي والمحسوبية والرشوة بل كان موجها للمناطق التي تشهد تحركات احتجاجية في مناطق الانتاج. خطاب اتصالي ضعيف وفاقد لأي رسائل طمأنة أسهم في عودة الصمود 2 وما ترتّب عن لاحقا من أزمة في قوارير الغاز شملت اغلب مناطق الوسط والجنوب ثم تشكل حراك اجتماعي نوعي في القيروان من خلال تجمع قوى المجتمع المدني والدخول في إضراب عام يوم 3 ديسمبر دفاعا عن حق الجهات في تنمية عادلة وتطبيق ما جاء من اجراءات معلنة من قبل المجلس الوزاري الخاص بالجهة والمنعقد بتاريخ اوت 2019. كما ظهرت تحركات احتجاجية في العديد من المناطق مثل اعتصام مجال بالعباس بالقصرين (امام السيرغاز الناقل للغاز من الجزائر الى إيطاليا وايضا في باجة وجندوبة والكاف والعديد من المناطق الاخرى.
وقد بلغ عدد الاحتجاجات الاجتماعية التي رافقت المئة يوم عمل لحكومة هشام المشيشي 3387 تحرك احتجاجي اي معدل حوالي 33 تحرك احتجاجي يومي مع تغير في منحنى هذه التحركات وفقا لتطور “الحالة” الاتصالية للرجل الأقدر.
حصاد العشرية الاولى
حصل هذا في الربع الأخير من العام العاشر للثورة حيث تفاقمت الازمة الاقتصادية والاجتماعية وكانت لها ارتداداتها على الوضع السياسي وعلى مسار الانتقال الديمقراطي لتصبح الازمة شاملة وتغذي خطاب الكراهية والعنف السياسي والاجتماعي. وبلغت الازمة حد العجز عن إيجاد موارد مالية لميزانية العام الجديد (شُح في التمويل المحلي وايضا الخارجي) وهو امر يوصّفه بعض الخبراء الاقتصاديين على انه إفلاس غير معلن. وقد مثلت حادثة الوفاة المأساوية للدكتور بدر الدين العلوي اثر سقوطه من مصعد مشفى جندوبة اثناء تدخله لتقديم خدمة علاجية ابرز تمظهرات أزمة المالية العمومية وهي حادثة هزت وجدان التونسيين. هذا الاحتقان الاجتماعي الذي رافق المئة يوم عمل لحكومة المشيشي كان متوقعا ولكن ليس بهذا الزخم الكبير فالمنطق يفرض ان يكون هناك نوع من التهدئة مع قدوم حكومة جديدة ومناقشة البرلمان لميزانية جديدة وبالتالي انفتاح الأوضاع على آفاق جديدة ولكن العكس تماما هو ما حصل لان الحكومة الجديدة افتقدت للخطاب الاتصالي المبني على تكريس التواصل مع الشارع وطمأنة الناس وهو امر كرس الضبابية وعدم الثقة في مؤسسات الدولة. وإذا ما أضفنا الى هذه الأزمة الاتصالية المناخ العام في البلاد والذي تسود فيه ازمة اقتصادية واجتماعية يصبح الوضع الاجتماعي قابلا فعلا للانفجار وان تأجّل ذلك الى حين.
وقد كُلّلت مساعي رئيس الحكومة للخروج من هذه الازمة بخيبات اتصالية جديدة فزيارته الاخيرة الى فرنسا والتي كانت خلفيتها اقتصادية باعتبار اللقاءات التي اجراها المشيشي في باريس وطبيعة الوفد المرافق له وفِي مقدمتهم وزير المالي رفعت الحجاب عن حقيقة صادمة وهي ان المشيشي-الرجل الاقدر لا خلفية له لا حقوقية ولا اجتماعية وهو الذي ربط بشكل صريح في تصريح لقناة فرنسية بين الهجرة غير النظامية والارهاب. نحس ما يلاحق الرجل فهو يترأس حكومة تجني حصاد عشر سنوات من الخيارات الاقتصادية الفاشلة وتواجه مطالب اجتماعية عادلة يعجز المنوال التنموي المعتمد عن الاستجابة لها وحراك اجتماعي بدأ ينزع نحو العنف بسبب اللا تفاعل والتسويف والتجاهل وعدم تطبيق الاتفاقيات المبرمة وضرب مصداقية الدولة واستمراريتها.
بلا شك تنهي تونس عامها العاشر من الثورة وقد خَوَتْ البطون وزاغت أي آفاق للتشغيل الذي هو ابرز عناوين كرامة الانسان وغابت العدالة الاجتماعية وزاد الخطاب المعادي للحقوق والحريات وهو وضع يهدد بلا شك مسار عشر سنوات من الانتقال السياسي المأزوم بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية المعطلة.
المنتدى التونسي للحقوق الاقتصاجية والاجتماعية