full screen background image
   الثلاثاء 19 مارس 2024
ر

تقديم رواية “الهجرة إلى معبد الغرباء” لمحمّد بليغ التّركي بنادي مؤانسات بدار الثقافة ابن رشيق

استضاف نادي مؤانسات بدار الثقافة ابن رشيق الذي أسّسه ويرأسه الكاتب والقاص والناقد عمر السعيدي يوم الأربعاء 06 جانفي 2021 الكاتب محمّد بليغ التّركي ليقدّم روايته “الهجرة إلى معبد الغرباء” الصادرة عن دار سارّة للنشر والتي ترجمها للغة العربيّة الأستاذ معز البجاوي، وهي العمل الرابع في مسيرة محمّد بليغ التّركي السرديّة بعد مجموعتين قصصيتين « Être & Mal être » و « Les vieux chalutiers » ورواية « L’Amour au temps de la honte » المترجمة للعربيّة بعنوان “الحب زمن العار” بقلم الكاتب والباحث حاتم سعيد. وحضر هذا اللقاء سينمائيون وكتّاب وشعراء ودكاترة مختصون في السرد.

وقد قدّم الكاتب عمر السعيدي مداخلة في جزئين: جزء تحدّث فيه عن عوالم محمّد بليغ التّركي لكتابة نصوصه وردّها في الغالب إلى الأصول ( العائلة والمعارف والناس عموما) وهو لا يقصد أسماء معيّنة وإن ذكرها كنية وإنّما هي محامل إنسانيّة تحمل أفكارا ورؤى وأحاسيس.

وكانت المداخلة في الجزء الثاني  حول كتاب “الهجرة إلى معبد الغرباء”، وذكر عمر السعيدي أنّ الكاتب استنسخ شخصيّة بطل الرواية من الكاتب نفسه وسمّاها “الكاتب”: أخرجها من ذاته وأقصاها بعيدا عنه وجعل يناقشها ويصفها ويعيش داخلها وخارجها. وبيّن أنّ بطل الرواية هو المثقّف الحقيقي وغير المزيّف والذي جعلته منظومة الدعاية يعيش في الهامش. وكان هذا المثقّف ناقدا للوضع السياسي قديما وحديثا، ثائرا على الإعلام المزيّف، محاكما السلطة الثقافيّة التي تشرف عليها مجموعة نصّبت نفسها نخبة حكماء لا تحمل رؤية للثقافة بل تدفعها الولائم و”الصداقات” والدينار ويجمعها وجه جميل؛ لذلك، كان بطله ثائرا على الوضع، لائذا بنفسه إلى “معبد الغرباء” رغبة في التطهّر من المادّة ومن القبح ومن الزّيف ناشدا صفاء يعيده إلى ذاته، فينجح في إعادة صياغة هذا العالم أو المشاركة في إصلاحه. ولكن هذا الحب الذي ينشده والذي يشدّه إلى ابنة صاحب المعبد ترك بعد فراقهما مجرّد إحساس عذب في قلبه وأحيانا شجيّ حين يذكره في وحدته وكلّما تذكّر وجها جميلا.

بعدها، تحدّث الكاتب محمّد بليغ التّركي عن كواليس كتابة هذه الرواية ورسالتها وكيف صار كاتبا وعصاميّته وعلاقة الوجع بالسخرية السوداء التي ميّزت أسلوبه، ثمّ قرأ الفصل 19 من الرواية، اخترنا منه هذا المقطع:

حربُ خنادق حتّى الخلاص. أصرخُ فيها شاهرا قلمي الذي كنت أمضغه لمّا كنتُ طفلاً، وسط رايات الجبناء البيضاء وخناجر الأعداء والأصدقاء. أطفالا، كنّا ننادي الرجال الذين يجلسون خلف مكاتب أنيقة أو من يحمل سلاحا ويلبس زيا رسميا أسيادا … كلّ من حرمنا من كل شيء حتى من حُب الأم والصّاحبة !!!

وراء أبواب العتمة، لم يتحول الكاتب إلى تلميذ نجيب. ظلَّ يبتسم وفمه ملآن دما وكلمات بطولية، مشى نحو الموت كما يسير الرّجل نحو عروسه يوم الزفاف.

في معتقلهم، صَنَعَ منفاه وأشعلَ روحَه لينير للأحياء والأموات الطريق إلى الطرف الآخر من كلماته، ولِيُعَلِّمَ القلوبَ المتحجرة المحبّة في زمن الأصنام.

إليكم كلماتي أيها الضالّون، اللّهم اشهد أنّي قد بلّغتُ، أطفَأوا فيكم سيجارهم، في بلدانِ وُسطاء وزّعوا المكافآت وألصقوا الصفات وزيّفوا وصولات صمت ونضال من قضوا في أقبية الصمت الجماعي. وُزّعت غنائم اقتتال الإخوة حسب الأصول، كما كُتب في وَصيّة أبناء عاهرات درسوا في مدارس الوضاعة الكبرى، وباعوا أرواحهم لأول شيطان.

روحُ الكاتب التي زارت غُرباءَ هذا العالم عَلّقت قبل أن تَتْرُكَهم ستْرةَ المجانين، التي رقص بها حكماء الانحطاط ليلبسها، حين أبصرتْ، لمّا سمعوا صمْتَ خطواته في الصحراء.

قرعَ زعماءُ السوق كؤوسهم حين رأوه طريح الرصيف، يبصق دمه على واجهات الوطن الجميلة التي تُغيّر معروضاتها في أعيادها ومناسبات وطن ضاق بما رحب وبلغ من الضيق ما جعله يرفض دموع أطفاله، وطن ضيّق كحذاء عسكري يلبسه حمقى بزي رسمي جنّدوهم لتطبيق ما سنّهُ على المقاس سادة “السلم”، الفرحين بنياشينهم التي نالوها بعد الحروب الباردة، في معتقلات تُحترم فيها حقوق الإنسان والبهائم.”

آراء الحاضرين حول الكتاب

الكاتب الهادي الخضراوي صاحب مقدّمة الرواية في نسختها بالفرنسيّة « L’exil au Temple des étrangers » :

هذه الرواية ليست كما تبدو رواية سيرذاتية فقط تروي تجربة ذاتية فهي أيضا رواية تتحدث عن العالم الخارجي بعد انعكاسه في الذات فتفصّل مواقف الكاتب من حيّه السكني ومن محيطه ومن السلط ومن الدوائر الحكومية ومن علاقات الناس بالقيم، بل إنّ الكاتب يثور في انتقاده لكل ما سبق ثورة عارمة فيضطر في النسخة الفرنسية الأصلية « L’exil au Temple des étrangers » إلى استدعاء المعجم اللغوي المناسب ( بما في ذلك من ألفاظ سوقية وكلمات عامية مغرقة في القسوة) لصب جام غضبه على الأوضاع السائدة. أمّا من حيث الأسلوب، فقد سلك الكاتب نهج تيّار الوعي مطلقا العنان لسرد تلقائي كما تبنى طريقة ( mise en abîme) أو قصّة القصّة في حديثه عن كتاب في الكتاب وعندما وصل إلى “معبد الغرباء “وارتهنت المحبّة قلمه استولت الشاعرية عندئذ على النص وصعدت درجة الخطاب إلى سوية أخرى.

الشاعر خالد الدرويش الذي كتب دراسة عن الرّواية:

في رواية “الهِجْرَةُ إِلَى مَعْبَدِ الغُرَبَاءِ” وظّف الكاتب السّخرية السوداء حين تحدّث عن الرّداءة التي آل إليها المجتمع الغارق في القذارة فكان نص الكاتب أشدّ بشاعة واحتفالا بالقذارة.

أخذَ محمّد بليغ التّركي من فنون سرديّة مختلفة فنجدُ: النصوص المكثّفة، الرّسائل، المحاورات، الوصيّة والحوارات التي تنحو إلى الكلام “العادي”، حتّى أنّ بعض الحوارات كانت منقولة من الواقع المعيش بلا تصرّف ولا معالجة فنيّة، وتبلغ هذه الحريّة منتهاها حين “تَوْنَسَ” اللّغة الفرنسيّة في عدّة مواضع من الرّواية.

محمّد بليغ التّركي كَتَبَ النصَ وكواليسه، هكذا، يتفاعل القارئ مع الرّواية ويتعرّف أيضا على عالم الكاتب، فالكاتب أقْحمه في عمليّة الكتابة، كما أقحم قَبْله الشخصيّة التي تتحدّث عن الكاتب داخل النص ذاته، فكانت هذه الرّواية نصا داخل النص.

رُوح محمّد بليغ التّركي لها “شطحات” في النصّ، غير مبالية برأي القارئ والناقد، فالكتابة عنده رسالة من عُمْق تلك الوصايا Commandements التي نقلها إلى ابنه، رسالة حُب أسْكره الوَجع.

ما كتبه محمّد بليغ التّركي في رواية “الهِجْرَةُ إِلَى مَعْبَدِ الغُرَبَاءِ” هو من المحرّمات الاجتماعية Tabous، فالكاتب لا يعتني عند كتابة نصّه بما سيظنّه القارئ، هو نفسه يجهل كيف وُلدت العبارة، الفكرة، فالكتابة عمليّة “كيميائيّة” معقّدة. إذا، السؤال عن سبب اختيار الموضوع ليس في محلّه، غير جائز طرحه، فالكتابة عند محمّد بليغ التّركي: لا تنير شيئا! بل ترينا فحسب حجم العار الذي يلفّنا إلى حد الاختناق.

بعدها، اقترح سمير البيّاتي، الفنان التشكيلي والناقد والشاعر العراقي أن تظهر على الغلاف لوحة تكون عتبة ومدخلا للرواية أو يكون العنوان مكتوبا بيد الكاتب مثلا بما أنّ الكاتب قد تحدّث في روايته عن مخطوط.

وتحدّثت الدكتورة فوزية الصفّار الزّاوق عن بعض تجارب ترجمة معروفة ثمّ عمّا ينشده القارئ حين يقرأ رواية، كأن يجد نفسه فيها مهما كانت “جنسيّة” النص.

أمّا الدكتور حمد حاجي فقد أفاض بالنقاش حول رواية “الهجرة إلى معبد الغرباء”.. ومزايا تأويلها الدلالي ذاكرا أن هذه الرواية منفتحة على الأنواع والأجناس الأدبية لذلك فإن الرواية جنس وان كانت “امبريالية” بطبعها..لمحناها بهذا النص الروائي تلتهم ما حولها..إنها تسمح بتوظيف الرسم واللوحة والمجسم التشكيلي.. وتتأثر كما بجلّ فصولها بالسينما.. لقد أوجد الروائي محمّد بليغ التركي سينوغرافيا مخصوصة أثث بها ركح الحكاية لمشاهدة بانورامية تأخذ بالقارئ إلى عوالم الدهشة..

وقال الشاعر محمّد صدّود عن النص:” هذا الكتاب وإن يكن ظاهره رواية ففي باطنه أسئلة عن الماورائيات، فالمسافر طرق باب الغيب وانتظر جوابا لحيرته الوجوديّة.”

وقالت الشاعرة زهرة حواشي أنّ الأسئلة التي طرحها المؤلّف في كتابه غامضة إلى حدّ الكتمان أحيانا، فسئلت الكاتب عن المقصود بمعبد الغرباء، وعن رسالة الرواية، أهي عودة إلى الوراء ورفض للحاضر؟

الشاعرة والفنّانة سليمى السرايري:

محمد بليغ التركي الأديب والإنسان، الذي قال في حواره مع ضيوفه أحيانا أخفي ابتسامتي لأن المجتمع أو بعض النفوس المريضة، تحسدنا حتى على تلك الابتسامة التي نختلسها من الوقت في خضمّ هذه الحياة المتشعبة بكل أوزارها.. أقول لك يا صديقي/ هل أصبحنا نبتسم خلسة ؟؟ وهل يحاسبوننا حتى على ابتسامة مرتسمة على الشفاه؟؟ نعم صديقي، أحيانا نضحك لكن القلب يبكي لذلك فقط أطلب منك أن تبتسم ولا تلتفت إلى هؤلاء….. كن انت فقط فالقادم أجمل.

المخرج السينمائي أنيس الدّالي:

أراد الكاتب محمّد بليغ التّركي أن يأخذ مسافة Distanciation من شخص مؤلّف الرواية ليرافق الكاتب الشخصيّة في تجربة موت “مطمئن”، هكذا يخفّف من وطئ الموت كما ينظر إليه عامّة الناس، فالموت عنده مرور إلى مرحلة أخرى، بُعد آخر. وفي هذا البرزخ الرمزي، معبد الغرباء، يخلق الكاتب كاتبا جديدا برؤية جديدة آلياته غير تلك المعروفة. فشخصية الكاتب في رواية “الهجرة إلى معبد الغرباء” قد ترك أزمة الحضارة المحتضرة بفراغها وأكاذيبها وهاجر إلى مكان معالمه غير واضحة لأيّ كان، معبد الغرباء، طقوسه المحبّة الّتي سيفنى المهاجر في حضرتها.

الفنّانة السينمائيّة منال كربول:

ما فهمته قبل قراءة الرّواية أنّ الكاتب رفض أن يكون سجين ما فُرض عليه وثار على “التدجين الاجتماعي” وقرّر أن يخوض تجربة الهجرة لعالم أنقى يلتقي فيه بإنسانيته ويرجع فيه لذاته، للمحبّة، للطمأنينة الروحانيّة.

وأتصوّر أنّ كل قارئ لكتاب “الهجرة إلى معبد الغرباء” ستدعوه هذه الرواية للتأمل والتفكير الذي يحتاج إليهما بعيدا عن عالم مزيّف رديء، سيطرت عليه عبادة المادة.

الكل يتوق إلى هذا السفر الذي دعانا إليه الكاتب في هذه الرواية، لكن لا يملك جميعنا شجاعته.