في أمسية استثنائية شهدتها الدورة الافتتاحية لمهرجان هرقلة الدولي مساء الخميس 17 جويلية 2025، أضاء عرض “الزيارة” سماء المدينة بروحانية خاصة، حيث امتزج عبق البخور مع وهج الشموع، وتآلفت أصوات السناجق مع زغاريد الفرح، لتقدم تجربة فنية تأسر القلوب وترتقي بالأرواح إلى عوالم من السمو والجمال.
انطلق العرض بهتافات التهليل والتكبير، لتتراقص الأعلام عاليا على إيقاعات الدفوف الصوفية، وتصدح الحناجر بأغانٍ خالدة من التراث الصوفي، على غرار “نا جيت زاير”، “يا أهل الله قلبي بغاكم”، “عالباب دارك”، “حب النبي زين الصفات”، “راكب الحمراء”، و”بالك تنساني يا بنيّت جمّال”، وهي أعمال تحمل في طياتها عمق التجربة الروحية التونسية عبر القرون.
شهد العرض تفاعلا جماهيريا استثنائيا، حيث شارك الحضور بالترديد والرقص والزغاريد، في مشهد عفوي يعكس عمق الارتباط الشعبي بهذا الفن الروحاني الأصيل. ببراعة فائقة، حوّل المايسترو سامي اللجمي مسرح هرقلة إلى “مزار” صوفي كبير، حيث قاد فرقة ضخمة تجاوز عدد أعضائها المائة، ضمت منشدين وموسيقيين وراقصين وحاملي أعلام، ليقدموا لوحة فنية متكاملة تجسد جوهر “الزيارة”.
اللجمي، الذي يعمل على تطوير هذا المشروع منذ عام 2013، استطاع أن يحقق معادلة صعبة تجمع بين الحفاظ على التراث والانفتاح على التجديد حيث دمج في عرضه آلات موسيقية عصرية كالأورغ والباتري مع الآلات التقليدية، كما مزج في ألحانه بين الجاز والفلامنكو والطبوع التونسية والشرقية، ليقدم تجربة سمعية بصرية فريدة تحافظ على روح التراث دون أن تقع في فخ التقليد والاستسهال.
على الرغم من تقديم “الزيارة” في مناسبات عديدة محليا وعربيا، لا تزال تستقطب أعدادا متزايدة من عشاق الفن الصوفي. فهي رحلة روحية شاملة تتضمن الذكر والتواشيح الدينية والمناجاة الخاشعة للخالق ومدح الرسول الكريم وذكر أولياء الله الصالحين.
يكشف هذا العرض عن الثراء اللامحدود للمخزون التراثي الصوفي التونسي، الذي يمثل جزءً من الهوية الثقافية للبلاد ومكونا أساسيا من مكونات الحضارة المغاربية والإسلامية. هذا التراث الذي تناقلته الأجيال عبر الزوايا والمقامات، يجد اليوم في أعمال اللجمي منصة معاصرة تضمن استمراريته ووصوله إلى الأجيال الجديدة.
يستمر مهرجان هرقلة الدولي من 17 جويلية إلى 15 أوت 2025، ويقدم برنامجا فنيا حافلا يضم 11 سهرة متنوعة. يستضيف المهرجان نخبة من ألمع الفنانين التونسيين والعرب، منهم: كازو، إيمان الشريف، نوردو، بلطي، بالإضافة إلى النجم اللبناني وائل جسار والفنان السوري الشامي، ونور شيبة. يعكس هذا التنوع الفني حرص إدارة المهرجان على تلبية مختلف الأذواق، وتقديم محتوى غني ومتميز.