بقلم ضحى المعلاوي
استاذة مدارس ابتدائية
كثر الحديث في الآونة الخيرة عن العنف المستشري داخل المدرسة بين أطفال لا يتجاوز معدل أعمارهم 12 سنة. ورغم الاجماع على خطورة الوضع والسعي الواضح من كل الأطراف المتدخلة لحلحلته بتقديم مقتراحات مثل اقتراح شرطة تحرس أبواب المؤسسات التربوية. إلا أن طرفا واحدا تم تجاهله تماما رغم انه في قلب الحدث. فهو من يقضي الوقت مع التلميذ في المدرسة، وهو من يتحمل المسؤولية القانونية والأخلاقية في حال تعرض طفل للعنف. وهو من يحمله الاعلام كل المسؤولية ويأكد تلميحا وتصريحا بأنه لا يقوم بما يكفي لحماية الأطفال من التعرض للعنف في الصف وفي الراحة وعند مغادرة المدرسة وحتى اثناء الدرس.
وبصفتي مربية فإنني أرغب في تقديم وجهة نظري وعرض اقتراحات قد تحمي الأطفال وتخفف وطأة العنف الذي اجتاح مدارسنا وآذى أطفالنا وسبب لهم معاناة نفسية وجسدية.
أولا ألاحظ غياب أي اجراء قانوني تأديبي يمكن تطبيقه داخل المدرسة فقط اجراء واحد هو أشبه بالعرف المتعارف عليه المتمثل في استدعاء الولي. وعدم حضور الولي لا ينجر عنه أي استتباعات. فالطفل سيعود للدرس كأنه لم يرتكب أي خطأ بعد أن أصبح بطلا ونجح في تعطيل الدرس ومارس ما طاب له من اللهو والمرح، فها هو يرمي زميله بصاروخ ورقي وها هو يتهكم على زميلة ثم تعلو على شفاهه ابتسامة النصر لما يسأله المعلم لماذا فعلت هذا ? فيجيبه ” و الله لا هو انا سيدي”.
ولكن استتباعات هذا التصرف الذي لم يتحمل صاحبه المسؤولية ولم ينل أي عقاب اخطر بكثير من مجرد طفل يلعب دور المهرج في القسم. فغيره سيبدأ بالتصرف على نفس المنهج وتتواتر التصرفات من تشويش وتهريج وتعاليق وغيرها. امام معلم يكرر لهذا “توقف” وللأخر “يكفي” وللأخرى “اشبيك” فترد “سيدي راهي قتلي ممسطك وانا ما عملتلها شي”. حاولوا تخيل هذا على مدار الساعة. لن يتلقى الطفل هكذا أي معلومة ومجرد ملء الكراس بعشرات المعلومات لا يعني نجاح الدرس. بل مجرد حصة تم تسجيلها على كراس المعلم انتهت بثمن باهظ: أطفال خرجوا جاهلين ومعلم اصبح يعاني مثلي من ارتفاع الضغط والتوتر والصداع والعجز عن الكلام والكتابة.
وتتوالى الحصص هكذا ويتزايد تهريج الأطفال, الذين يجب تسميتهم بالمراهقين, وأجد غريبا ان لا احد من المختصين النفسيين او خبراء الطفولة او الأطباء النفسيين تناول هذا الموضوع بالدرس. فهو بلا شك موضوع خطير: أطفال لا يتجاوزون العاشرة يعانون من التوتر، وعدم القدرة على السيطرة على مشاعرهم فهم يعانون من مشاعر لا يعرفون كيف يتعاملون معها مثل مشاعر الحب والكراهية. ولا يستطيعون تحمل الجلوس لساعتين ويعجزون عن التركيز ويحتاجون لمن يفتح كراساتهم في المنزل وينجز معهم تمارين لانهم غالبا لا يتذكرون ان عندهم عمل ولا يستطيعون انجاز تمارين رغم تدربهم عليها .والأخطر انهم يتعاملون مع بعضهم بطريقة عنيفة عند اللعب او عند الخصام.
هؤلاء الأطفال الذين كبروا بطريقة سحرية واصبحوا يحملون معهم عبئا اكثر من عمرهم. فالانترنت فتحت عيونهم على امور اكبر من قدرتهم على استيعابها وأصبحوا يرغبون بحرق كل المراحل والوصول بسرعة البرق لمرحلة الاستقلالية والحرية .
ولا احد يسمع للمعلم . كل برنامج استمع اليه يتحدثون عن المعلم كأنه شبح. يتهمونه بالتقصير ويحملونه مسؤولية فشل المدرسة العمومية. فهو لم يفعل شيئا لهذا الطفل الذي يتعرض يوميا للدفع في الصف ولم ينقذ فتاة مسكينة تعرضت لهجوم من زملائها داخل القسم اثناء الراحة . رغم ان الولي يشتكي يوميا لهذا المعلم الشبح لكنه لا يقوم بدوره . ولا يحمي اكثر من 50 طفل يجتاحون الساحة كل ساعتين . وتسأل المذيعة بصوتها العذب ” ماذا يمكن ان نطلب اكثر من المعلم?”
. لم يتم الاتصال باي معلم اثناء الحلقة?
فقط حلقة من برنامج اجتماعي شهير قدمت عشرات الشهادات المحزنة عن أطفال تعرضوا للعنف. ولم يقم المعلم بحمايتهم وانقاذهم .
. لم يتصل الاتصال بأي مسؤول لإفادة الاولياء بإجراءات كان لتساعدهم وتوصل صوتهم للإدارة وتوفر جوا تربويا افضل في المدرسة لأطفالهم.
والأهم لم يتصل الاتصال بالموظف الوحيد الموجود داخل سور المدرسة “المعلم” . الطرف الاخر في الموضوع.
وكان بودي لو اخبرتنا السيدة المذيعة بما تظن انه علينا فعله .
فانا منذ الدخول للمدرسة اعد درسي واضع كراسات القسم على الطاولة واحرص على ادخال الأطفال بسرعة للقسم ثم يبدأ ويبدأ التشويش وطلب الذهاب لبيت الراحة والشجار والبحث عن قلم هنا وممحاة هناك وربما عن الاقزام الصغيرة التي تختفي داخل المحفظة . من يدري ?
وعلي ان لا انس دفتر المناداة لأني احاسب قانونيا ان غفلت عن تسجيل غياب او تأخير او خروج اضطراري لاحد الأطفال . ولا انس تمرين كراس القسم او جملة الاملاء او تلبية اي طلب لأني بذلك اعرض نفسية الأطفال الهشة للأذى . فعلي إيقاف الدرس كل 5دق لتلبية عشرات الطلبات المختلفة وإجابة عن كل الأسئلة فهذا يسأل عن موعد الامتحان وذاك يسأل عن موعد الاملاء وذاك يسأل متى نستعمل اللوحة واخر يلح ويكرر انه عليه زيارة بيت الراحة كل نصف ساعة لأنه يعاني من الم بالمعدة . وأيضا لا انس وضع امامي كل المعينات المدرسية اللازمة لنجاح الدرس . وشرح درس مع الحرص على تشريك الجميع والانتباه لكل من يريد مغافلتي واللعب .
ثم الحرص على اخراج الجميع للباب بأخف الاضرار . والعودة للقسم لتجميع كل كتبي وكراساتي وتنظيف السبورات حتى لا يغضب الزميل ويصيح بأعلى صوته كي يوصل الاطفال لي “اني معلم غير نظيف لم اترك القسم نظيفا كما وجدته”. وهذا لا ينطبق على الكثير من الزملاء لحسن الحظ.
هذا عملي بالتأكيد . و لا احتج فقط أتساءل كيف يمكنني ان أكون في 4 أماكن في نفس الوقت: كيف أكون في القسم لتنظيمه وأكون في الساحة لحراسة الأطفال وحماية الداخلين وحماية الخارجين وأكون في مكتب المدير الذي لا يجد لي وقتا لي و يريد مني ان أكون سريعة وخفيفة واكمل اعمالي الإدارية من تسليم أوراق الامتحانات والاعداد وغيرها في لحظات كي اهرع خلف الأطفال وامنعهم من الركض والتدافع امام الباب . حاولوا تخيل المشهد لأنه يتكرر يوميا منذ عشرات السنين.
طبعا تركت الأفضل للأخير . اضف لكل هذا أطفال من حالات خاصة مختلفة . لكل منها اعراض معينة فهذا طفل عنيف يضرب أي شخص يشتبه في انه نظر له بطريقة سيئة وتلك فتاة صغيرة تتجول في القسم وتبدأ في رمي الأشياء لو طلب منها المعلم الجلوس. وذلك يبدأ بالبكاء ويريد ان يتفقد الساحة كل 5دق ليتأكد ان امه جالسة في ساحة المدرسة.
أطفال صغار لا ذنب لهم سوى انهم مختلفون . يجدون انفسهم داخل اسوار المدرسة دون أي مرافقة خاصة الا من تمكن تخصيص مرافق لابنه بمقابل مادي . أطفال يتم تلقيبهم بحالات خاصة . لا يمكنهم تحمل البقاء في القسم لـ5 ساعات متواصلة . ولا تتوفر في المدرسة العاب او وسائل مناسبة لتعليم هكذا أطفال. وكلما قال لي احدهم شركي هؤلاء الأطفال في نشاطات مناسبة لهم . أتساءل واسأل أي نشاطات ? فانا مع اطفالي في قاعة لا يتوفر فيها الا سبورتان وخزانتان وطاولات للأطفال ومكتب للمعلم. يأتي الأطفال للجلوس على الطاولات ويدرسون . الحديقة صغيرة والملعب فيه أطفال اخرون عندهم حصة التربية البدنية.
هل اترك ذلك الطفل يلعب وحده في الحديقة ويتشاجر مع أي طفل خارج لبيت الراحة. هل ابقيه في القسم واتحمل وقع طرقه على الطاولة وتحريك الكرسي ثم تحريك الطاولة ثم البي كل طلباته عله يتوقف لـ5دق عن الصراخ. فبقية الاطفال لا يستطيعون التركيز وقد بدأوا في التصرف بفوضى مثله. فلماذا يرون طفلا يتصرف كما يشاء يصرخ ويلعب ويغني ويذهب قفزا لسلة المهملات ويعود قفزا ويستمتع بوقته امامهم وهم مطالبون بالدرس والاجتهاد. وأحاول جاهدة شرح حالته لهم بكلمات بسيطة تبعد عني شبح التشهير وتشجعهم على قبول هذا الطفل واحتوائه. فعلى اكتافهم الصغيرة تقع مهمة احتواء وادماج الأطفال ذوي الحالات الخاصة وعليهم تفهمه لو حاول ضربهم او شتمهم او رميهم بأشياء وعليهم عدم اغضابه وتلبية طلباته. وتحمل صراخه وغنائه ولعبه وطرقه المتواصل على الطاولة.
إذن اسأل مرة أخرى ماذا تريدون مني ان افعل ?
لو كنتم دعوتموني لاي حلقة من برامجكم التي تدعي اصلاح التعليم بمنح المصدح لكل من يرغب بإبداء رايه عدا المعلم “الموظف الوحيد الموجود في المدرسة”. لو كنتم طلبتم رأيي لقلت ” ما رأيكم بإحداث بقاعة مطالعة ? تقوم بدورين : أولا تشجيع الأطفال على المطالعة عوض البقاء امام باب المدرسة في انتظار الحصة المسائية.
وثانيا كل من يهرج او يعطل سير الدرس يقضي بعض الوقت فيها ولا يحق له العودة للقسم الا بعد قراءة قصة. فمن يهرج هو طفل يستمتع بإلهاء الجمهور . لذا بحرمانه من متعة لفت نظر الجمهور ينتفي سبب التهريج.
لو كنتم طلبتم رايي عندما دعوتم المختص النفسي وتحدث عن قلة عددهم الشيء الذي يصعب عملهم. لكنت اردفت وعلقت قائلة ” لماذا لا تفتح المدرسة أبوابها للمتقاعدين? من كل القطاعات التي تعنى بالطفولة
( مربون / أطباء نفسيون / ممرضون نفسيون / مختصون في النطق و التصرف / مروضون / ممرضون / مبدعون / خبراء طفولة / خبراء سلوك و غيرهم. يتمم تنظيم الامر قانونيا و يقدم من يرغب في التطوع ملفه المشفوع بوثائق تثبت خبرتهم و حسن سيرتهم و التزامهم. و بعد موافقة الإدارة يلتزم المعني بالعمل يوميا لساعات معينة. الا يرغل أي جد في مساعدة حفيده ?
الا ترغب أي جمعية في التدخل لمصلحة هذا الطفل داخل اسوار المدرسة .
بعد كل هذه الاجراس التي تدق! بعد كل ما يقال في كل المنابر الإعلامية عن تزايد العنف وهشاشة نفسية الطفل وتأزم حالته النفسية وكرهه للمدرسة ونفوره من المدرسة العمومية ومن الدراسة .
ألا يحتاج هذا الطفل ان تكونوا بجنبه داخل اسوار المدرسة وان لا تتركوه وحيدا مع معلم ترونه مقصرا وعاجزا وفاشلا?