full screen background image
   الأحد 5 مايو 2024
ر

الإعلامي طارق البشراوي: هذه مقترحاتي للنّهوض بالبلاد

لن أتنازل عن حقّي بخصوص تعرّضي لأكبر مظلمة في تاريخ الإعلام التونسي

رغم إنتاجاته الفكرية والأدبية الهامة، ورغم مسيرته الحافلة بالمبادرات في الكثير من المنظّمات العريقة، ورغم تواجده في الساحة منذ أكثر من أربعة عقود، ورغم بعثه لعدد من وسائل الإعلام ومساهمته في بعث الكثير منها، إلاّ أنّه مازال يرفض الظهور الإعلامي ومازال يمارس تواضعه الذي عرف به منذ صغره، بل ويقول دائما إنّه مازال يتعلّم وإنّه لم يصل بعد إلى ميناء المعرفة وإنّه لا يمتلك الحكمة كاملة وإنّه لا يعطى الدّروس، فهو يعمل ليلا نهارا ويعدّ لإصدار بعض الكتب، وعندما تجالسه تستمتع بخفّة روحه وبمدى جدّيّته وتستفيد منه لدرجة أنّك تتنازل له عن حقّك في الكلام كي تستمع له، فهو كنز معلومات وتواريخ عواصم وجغرافيا لا تحدّها ضفتان، وهو الوفيّ أيضا لقيم الود والإخاء والتضامن، وهو صاحب كرم حاتمي، لا يبخل إطلاقا ولا يمّل الكرم… هو إنسان بكلّ ما حملت الكلمة من إيجابيات، وقد صدرت له عديد الكتب بالغة الفرنسية وهي: “محمد الدغباجي: ملحم نخوة” و”جاك شيراك: الأمل الأخير للعرب” و”شهد الكلام” (مجموعة شعريّة) و”فلسطين النّازفة” و”حلم الحياة” و”غدا عند الفجر عندما تكشف الحقيقة”، ويشغل حاليا خطة رئيس مجموعة المنظمات التونسية غير الحكومية بفرنسا ورئيس “المركز التّونسي للبحوث والدراسات والتخطيط الإستراتيجي- تونس 2030” ونائب رئيس جمعية وفاء لتنمية جهة المحرس.
ضيفنا إذن هو ضيف من الحجم الثقيل، إنّه الإعلامي والكاتب والناشط الجمعياتي طارق البشراوي الذي حاولنا في هذه المساحة إحراجه كما ينبغي، وبين السؤال والجواب رحلة نقلناها بكلّ أمانة على الورقات، فكان ما يلي:
• أكثر من أربعين عاما في السّاحة الإعلاميّة التّونسيّة والدّوليّة … ثم ماذا؟
أنا أتنفّس الإعلام والكتابة والشعر والأدب والفلسفة الوجودية، لذلك لم أطرح على نفسي سؤالك طيلة كل هذه السنوات، لكن ما أريد تأكيده هو أنّني سأواصل العمل في الإعلام وسأواصل الكتابة والبحث وسأواصل نشاطي الجمعيّاتي.
• هل نفهم أن لديك كتب جديدة ستصدر قريبا؟
طبعا، فأنا منكبّ على إعداد عديد الإصدارات بصفة متزامنة، لكنّ الثابت أنني سأصدر كتابا شعريا باللّغة الفرنسية خلال الفترة القليلة القادمة وهو يجمع بين الإنسانية والوطنية والمواطنة وقيم الجمهورية وغيرها، وأنا بصدد الاشتغال عليه، لأنّ إصدار أيّ كتاب بعد كلّ إصداراتي يعدّ بالنسبة لي مسؤولية كبرى إذ لم يعد من حقي الخطأ أو إصدار عنوان لا يرتقي للمستوى المأمول، فالكتابة عندي أمانة ورسالة وليست مجرّد رقم لتحقيق الشهرة أو المال.
• وماذا عن الكتب الأخرى؟
هي كتب متنوّعة تجمع بين التّاريخ والتحاليل السياسية وبين النقد والآراء والمواقف والمقالات، فمن بينها ما أتممته ومنها ما أنا بصدد إتمامه، وكلّ هذا يتزامن مع عملي المضني والمرهق والممتع في الآن ذاته.
• بعثت بعض وسائل الإعلام، وساهمت في بعث البعض الآخر، فهل تنوي تجديد هذه التجربة؟
طبعا، فبعد العديد من الدوريات وأهمّها مجلّة “La Solidarité” وأخرها مجلة “وفاء” لجمعية تنمية جهة المحرس، أنوي إصدار جريدة خلال السنة الإدارية القادمة، وستصدر باللّغتين: العربية والفرنسية، وقد أطلق عليها الفريق التحريري اسم “العزم”.
• ألا ترى أن عهد الإعلام الورقي قد ولّى نهائيا، وبلا رجعة؟
أستغرب أن تؤمن بدورك بذلك، وأنت الصحفي الذي يقول دائما إنّه لا ييأس ولا يملّ، كما أستغرب غلق عديد الصحف الصغيرة وحتّى الكبيرة، فالصّحافة كالأرض إذا بخلت بخلت، وإذا عرفت كيف تخدمها جادت عليك بالمحصول الوفير، فهذه الجريدة سوف تكون مخالفة للمعهود وسوف نجد لها قرّاءً رغم الزّحف الرّهيب للأنترنات وللمواقع الإلكترونية التي لم تستطع في أغلبها أن تكون بديلا للإعلام الورقي لاسيما أنها لم تستغل الوضع كما ينبغي، إذ أن أغلبها لا تمارس العمل الصحفي بقدر ما تمارس الإخبار والبحث عن المفاجأة ولو على حساب المصداقية والحرفيّة وسلامة اللّغة ودقّة المعلومة، لذلك أرى أن القارئ الذي غادر الإعلام الورقي نحو الإعلام الإلكتروني سيعود من بوابة هذه الجريدة التي ستقدم له مادة إعلامية دسمة لن يجدها في أي تلفزيون وفي أية إذاعة وفي أية صحيفة أخرى.. ستكون مرجعا فكريّا لدراسات وبحوث دسمة نحن بصدد الإعداد لها ضمن “المركز التّونسي للبحوث والدراسات والتخطيط الإستراتيجي- تونس 2030”.
• منذ سنة 2005 تقدمّت بمطلب للحصول على رخصة بعث قناة تلفزية اسمها “تلفزة تونس1” (TT1)، فإلى أين وصل هذا المسلسل المكسيكي؟
ليته كان مسلسلا مكسيكيا فحسب، بل كلّ المسلسلات المكسيكيّة والتّركيّة والسّوريّة مجمّعة في مظلمة اسمها مسلسل “تلفزة تونس1” الذي مللت الحديث فيه، ولكنني سأجيبك احتراما لك وللعمل الصحفي ولأخلاقيات المهنة التي تفرض فضح كلّ الممارسات التي استهدفت هذا المشروع الحلم لمدة فاقت الثمانية عشر عاما، ومن ورائها استهداف شخصي في أكبر مظلمة إعلامية عرفتها تونس منذ استقلالها، ففي سنة 2005 تقدمنا بمطلب للحصول على رخصة أول قناة تلفزيّة تونسيّة خاصة، وبعد هذه المماطلات، تلقينا بتاريخ 11 مارس 2006 أوّل مكتوب من وزارة الاتّصال تلتها مراسلة رسميّة من ذات الوزارة بتاريخ 18 أكتوبر 2007 تحثّنا على إعداد دراسة تقنيّة للمشروع وأخرى مالية فقمنا بذلك، وفي ماي 2008 أعددنا العدة وقمنا بكراء مقر للبث وتكبّدنا خسائر بقرابة 1200 ألف دينار، وفي سنة 2009 طلبوا منا إعداد نموذج من البثّ التّجريبي وتمّ تعيين خبير من قبل وزارة الاتّصال الذي استحسن العمل المنجز وقدّم في الغرض تقريرا للمصالح المعنيّة، وكنّا اعتقدنا أنّنا سنتحصّل على الرخصة وقتها إلاّ أنّنا فوجئنا بإشعارنا بضرورة التّنازل عن نسبة 51% لفائدة جهة مقرّبة من السّلطة آنذاك حتى يتسنى لها الإشراف قانونيا على مجلس الإدارة، وبالتالي الاستحواذ على المشروع فكان من البديهي أن نرفض هذا “الإستعمار” وانطلقنا في البث التجريبي في غرة جوان 2010 على القمر الاصطناعي”نايل سايت” باعتماد الصورة لا الفيديو، وظلّ الحال على حاله حتى 14 جانفي 2011، فتقدّمنا بملف جديد بتاريخ 17 جانفي من نفس السنة، لكن السّلط طلبت منّا في شهر أفريل من السنة نفسها توجيه مطلب لهيئة الإعلام والاتصال التي يترأسها آنذاك كمال العبيدي قبل أن يتم بعث الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (HAICA) التي فعلت بنا ما فعله نظام بن علي، بمنطق العصابة الملتفّة حول الإعلام تحت غطاء الثّورجيّة الوهميّة والتي شرّعت القوانين لنفسها فأسندت التّراخيص لغير مستحقّيها، فتمّ تبجيل رجال الأعمال على الإعلاميين، بمعنى أن تحرير الإعلام بعد الثورة هو وهم كبير حيث انتصبت قوى تعسّفيّة تجاوزت ما كان يقوم به الطرابلسية لدرجة أن هذه القوى لجأت حتى للكذب وخلق الرّوايات المغشوشة، وأساءت بطريقة مفزعة ومقرفة لمفهوم الإعلام الحر وحرّية التّعبير لخدمة أجندات مشبوهة.
• وهل مازالت مصّرا على بعث “تلفزة تونس1″؟
طبعا، فـ”ما ضاع حقّ وراءه طالب” وهذا حقّي، ولن أفرط فيه، فبالإضافة إلى ما ذكرت، فقد تكبّدنا عديد الخسائر والمصاريف وتمّ حرمان أكثر من أربعين إطارا من خرّيجي معهد الصّحافة وعلوم الإخبار من العمل بعد انتظار سنوات طويلة تجاوزت 18 سنة من الظّلم والمعاناة، إضافة إلى حوالي ستّين موظفا وعاملا ظلّوا يتنظرون ويعانون البطالة في بلد يحتاج إلى أيّ موطن شغل، ولا أتحدّث عن ساعات البث التي قمنا بإنجازها والتي بلغت 12500 ساعة بث بتكلفة ناهزت 1700 ألف دينار وأنّ الكثير منها خسرناه لأنّ الأحداث تجاوزته، كما خسرنا بعض الشّركاء جرّاء هذا التعسّف وهذه الأسباب الواهية، علما أن هناك من أخذ نسخة من ملفّنا وقدّمه، فتحصل مباشرة على الرّخصة، وهذا ما يعني أن إجازة البث تُمنح بمبدإ المحاباة، هذا وأشير إلى أنّنا رفعنا قضيّة في الغرض لدى المحكمة الإدارية.
• لو تحصلتم على رخصة البث (الإجازة)، فماذا ننتظر من “تلفزة تونس1″؟
ستكون قناة تلفزيونيّة مخالفة للمعهود فهي ضدّ التّفاهة وضدّ التّرذيل الثّقافي، وضدّ المتاجرة بأعراض الناس، هي قناة شبابية بامتياز، تروّج للفرح وللسّياحة وللثقافة الجادة وللجمال وللإبداع وللتّميّز باعتماد أحدث تقنيات التصوير والبث.
• وماذا عن نشاطك الجمعيّاتي؟
مازالت أعمل داخل تونس وخارجها، وخصوصا في فرنسا، وأرجو من سلط الإشراف إعادة الاعتبار للتونسيين بالخارج لما يوفرونه من عملة صعبة للاقتصاد الوطني ولما يروّجونه من صورة راقية حول تونس وفي شتّى المجالات محلّيّا وعالميّا.
• بعيدا عن كل هذا… كيف تقيّم الوضع العام بتونس بعد 14 جانفي 2011؟
لقد تأزّم الوضع العام بتونس منذ هذا التاريخ، حيث تفاقم الفساد وفقدت الدولة هيبتها وانهار الاقتصاد الوطني وعمّت الفوضى في شتّى المجالات، ففي “العشرية السوداء” عشنا أحلك فترة في تاريخ تونس، فبالإضافة إلى سوء التّصرذف وغياب الكفاءة واستفحال الفساد المالي والإداري، أصبحنا نعاني من غلاء المعيشة ومن تعطّل مصالحنا لأبسط الأسباب ومن عجز الحكومات السابقة عن تقديم الحلول، بل إنّها كانت المصدر الرّئيسي للعديد من المشاكل لغياب التّجربة والدّراية والحنكة وحسن التّدبير، وما زاد على ذلك كثرة الإضرابات والإعتصامات التي أرهقت كاهل الدولة والتي تسبّب في مغادرة الكثير من المستثمرين الأجانب لبلادنا وعزوف الكثير منهم عن الاستثمار في تونس، كما أغلقت عديد المصانع والمؤسسات أبوابها تهائيّا بسبب الشروط التّعجيزيّة للنّقابات التي باتت نقمة على المواطن لا نعمة، وتحوّلت إلى وباء وإلى وسيلة ضغط وابتزاز لتحيد بذلك عن دورها الرّيادي ولتسيء لسمعة الإتحاد العام التونسي للشغل ولتاريخه النضالي الكبير قبل الاستقلال وبعده.
لقد تسبّب الكثير من النقابات في تعطيل عجلة الاستثمار وفي جوع العديد من العائلات كما تسبّبت في خلق الأزمة تلو الأخرى في شتى القطاعات في الوقت الذي كان يفترض فيه أن تساند مجهودات الدولة، لا أن تضع العصا في العجلة.. وفي تُسمّى بـ”العشرية السوداء” كثرت الأحزاب وتفاقم الفساد وقلّ الفعل الجيّد، فكانت تونس بمثابة الغنيمة التي عملوا على اقتسامها فيما بينهم، فقادوا البلاد إلى الهاوية وجوّعوا الشعب فتفاقمت الجريمة وغابت الرّحمة عن القلوب وارتفعت نسبة البطالة وكثر الجشع وعمّت الفوضى، ولا ننسى أنّ بعض قنواتنا التلفزية لم يكذبوا عندما أطلقوا عليها صفة “إعلام العار”، فبعض هذه القنوات ساهمت في تردّي الأوضاع بالترويج للتّفاهة وبتوجيه الرّأي العام. عشنا سنوات غابت عنها الرؤية في ظل العبث السياسي وفي ظل تفاقم الفساد.
• هل لديك مقترحات حلول للخروج بالبلاد من الأوضاع التي آلت إليها؟
علينا أن نعود للعمل المتقن وجعله قاعدة مركزية في عقلية المواطن مع تثبيتها كنمط عيش داخل الأسرة والمدرسة وفي الشّارع.. علينا أيضا اعطاء الفلاحة الأولوية المطلقة كما حدث في أمريكا خلال القرن السابع عشر مع العمل على تطوير البنية التّحتيّة واللوجستيك وإصلاح منظومة التّعليم ورفع أيادي النقابات عليها وإخراجها من بوتقه العبثية والمشاحنات البيزنطية ووضع مصلحة البلاد فوق كل الاعتبارات مع النهوض بالمجال الصحي وبالبحث العلمي وتعيين الكفاءات المشهود لها بالمعرفة والخبرة، فالكثير من التّعيينات الأخيرة لم تكن في المستوى المطلوب وفشلت في تحقيق النتائج المرجوّة. يتعيّن علينا أيضا تشجيع الاستثمار في شتّى المجالات وخصوصا المجال الصّناعي وضرورة إلغاء العقود الاستعماريّة الخاصة بالبترول والغاز والملح وغيرها من الثروات الوطنية.. يتعين أيضا تطوير السّياسة الخارجية، وخاصّة الدّبلوماسيّة الاقتصادية لدعم الاستثمار الخارجي للبلاد وإعادة الاعتبار للتّونسيّين المقيمين بالخارج وتثمين قدراتهم. وبهذا كلّه ستتطوّر البلاد فنقضي على البطالة والفوضى ونحسّن ظروف المعيشة ونقلّص من نسب الجريمة، فلننطلق في إصلاح أنفسنا مع الالتفاف حول كل مبادرة للإصلاح، لا الاكتفاء بالمشاهدة أو وضع العصا في العجلة أو الإطناب في الانتقاد وفي التعاليق التي لا تطوّر من حالنا ومن حال بلادنا. وجب أن نكون متفائلين وإيجابيّين لصناعة تاريخ جديد يعيد الأمل لشعبنا وخاصّة لشبابه المتعطّش للعزّة والكرامة وفرحة الحياة.
• ختاما… ماذا تقول؟
شكرا على هذه الاستضافة وأرجو من السّلط المعنية أن تنتبه لكلّ المظالم التي تعرّضنا لها وأن تتولى النّظر فيها وإعادة الحقوق لأصحابها بالنّجاعة المطلوبة، ولا يستوي حال الوطن إلاّ باستتباب العدل بقضاء عادل شفّاف يعيد الثّقة في المشترك الذي يجمعنا، خاصّة أنّنا عاهدنا الله على خدمة البلاد والعباد إلى آخر نفس.
حاوره: عادل الهمّامي