full screen background image
   السبت 23 نوفمبر 2024
ر
ادب

ما معنى أن تكون حرّا في بلد معلّق بين السّماء والأرض؟

بقلم: نجاة دهان

لا أحد يمكن أن ينتقص من أحلام كثير من التونسيّين بحياة عزيزة غير أنّ ما انتهى إليه الأمر ـ على الأقلّ إلى حدود هذه المرحلة ـ يبدو خليطا هجينا بين ألسنة تثرثر عن الحقّ والكرامة والعدالة والوطن وبين أيد توقّع على اتّفاقات وقوانين تقسم ظهر البلد وتحرق ما بقي من أحلام المهمّشين.
في كلّ هذا لا شيء ثبت غير حريّة الكلام، قل ما تشاء واستزد في السبّ كما تشاء لكن اعلم أنّ اللغة لا تفعل فعلها في أصحاب القرار ولا في الشّعب الذي سكنه اليأس وصار يرى في الشّارع كذبة كبرى يتاجر بها أصحاب المطامع فيعود المساكين إلى بيوتهم وقد هدّهم الوقوف ويغنم تجّار البلد مغانم بلا عدّ. ولأنّ التّجارب يجب أن تنتهي إلى نتيجة صار علينا أن نحلّل ما عشناه بموضوعيّة بعيدا عن التّمجيد المرَضيّ أو التّقزيم أو حتّى حسابات الخسارة الذّاتيّة علّنا نتلافى بعض الوهن وسنقف على ثلاثة ثوابت نراها مركزيّة.
الأوّل هو أنّ المجتمع ينقسم كلّما طرحت مسألة مّا، لا نتحدّث عن اختلاف الرّؤى بل عن انقسام يجعل الحديث عن مشروع مشترك محلّ استفهام فكيف ستتشكّل صورة واحدة من قطع هجينة أمّا الثّاني فهو أنّ المنتصر هو الذي أثبت قدرته على البقاء والمحافظة على ولاء أفراده أي أن لا علاقة للأمر بالوطن ولا بالانتماء إلى الأرض فكيف يمكن أن تثق في من همّه لا يتجاوز وجوده؟
وثالثا ـ ما يبدو لنا خطيرا ـ تشكيل ذهن يقزّم القيم الحقيقيّة فيشوّه أصحابها متوهّما أنّه يكسر أصناما دون أن يعي أنّ كلّ الشّعوب تحتاج إلى قيادات تحترمها ما احترمت هي حقّ النّاس في الكرامة. إنّها ثقافة جديدة هادمة تجعل الفرد يشنّ الحرب ضدّ الكلّ مغيّبة الموضوعيّة ووحدة الهدف، فننتهي دون مفاهيم واضحة ومواقف ثابتة لا حياد عنها، ثقافة خطرة توهم بالحريّة فتختزلها في اللّسان وتغيّب المقاومة. مازلنا نحتاج إلى مقاومة حرب التّفقير الذّهنيّ لنعي ما يحدث وما يُحاك ولنستشرف ما سيكون ومازلنا نحتاج إلى المقاومة حتّى لا ينالوا من إيماننا بالبلد وبأنفسنا وحتّى لا يبقى الوطن معلّقا بين السّماء والأرض.
(نجاة إدهان: أستاذة وباحثة في السّرديّات، كاتبة تونسيّة تكتب الرّواية والقصّة والمقالات المتنوّعة، شاركت في ندوات كثيرة ونشرت في صحف ومجلّات ومواقع تونسيّة وعربيّة)