full screen background image
   الجمعة 22 نوفمبر 2024
ر

الإنسانيّ و العنف…بقلم محمد علي الباي

ما بين مرحلة انتقالية و أخرى إعتبطاية عبثية، يستفيق الإنسان كل صباح على خبر عدوان دولة على أخرى أو جريمة قتل سببها سرقة هاتف أو دين أو ثأر أو رغبة جنسية مكبوتة منذ أزل لم يجد صاحبها شكلا مناسبا لتصعيدها. فالحروب و جرائم القتل و العنف سمة من سمات العصر الذهبي عصر العولمة الرأسمالية.

لا يمكن الحديث عن العنف في معناه المطلق، أو كظاهرة اجتماعية، أو كلغة تواصل، أو كوسيلة للبحث عن الاعتراف و إبراز الوجود، أو كسلوك إجرامي مرضي دون الغوص في أسبابه التاريخية و النفسية و الاقتصادية..

إنّ الفكر المعاصر الذي يرى هذا السلوك ترسبا من ترسبات الإنسان البدائي أو المتوحش، قبل أن يصل لمرحلة التحضر عندما ” ألقى كلمة بدلا عن حجر”؛ كثيرا ما يحيد عن التحليل الموضوعي لهذا السلوك بإضفاء نزعة أخلاقوية لكينونة الإنسان. و لعل للعنف و الجنس ارتباطا عضويا تاريخيا ملازما لجوهر الإنسان فالأسطورة التي روت لنا أول جريمة في التاريخ البشري كانت من قابيل الذي قتل أخاه هابيل لأنه أراد أن يتزوج الأجمل بدلا منه.

إذ يؤكد مؤسس مدرسة التحليل النفسي سيجموند فرويد أن العنف نزوع طبيعي في الإنسان يتمثل في العدوان الذي يفصح عن نفسه حين تغيب المؤسسات الاجتماعية. كما أكّد ذلك قبله الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز في كتابه التنين أنّ “الإنسان ذئب للإنسان في حالة الطبيعة” و تتميز هذه الحالة على عكس الحالة المدنية ب “حرب الكل ضد الكل” نظرا لغياب أي وازع سلطوي أو قانوني أو أخلاقي ينظم الحياة بين الأفراد؛ فكان من الواجب وجود سلطة التنين التي تنحدر منه بقية السلطات. هذا بالنسبة لواحد من فلاسفة العقد الإجتماعي و منظري فلسفة الأنوار التي كانت تنادي بفصل الدين عن الدولة.

و عصرنا الحالي الذي نعيشه اليوم (عصر الآلات و الثورات السياسية و التكنولوجية و الهواتف الذكية) لا يخلو من سمة العنف و إن كنّا قد تخلصنا من بعض الأنظمة اللّا إنسانية كالعبودية و زوقناها ببعض الجماليات الترتيبية المنادية بالمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان و نصينا عليها في دساتيرنا و قوانينا المنظمة للحياة الفردية و الجماعية. فالمجتمعات الأكثر بؤسا و فقرا هي التي تكون فيها نسب جرائم العنف مرتفعة بصورة رهيبة ليست سوى تتويج لعصر العولمة الرأسمالية و التناقض الحاد بين إنسان يولد و يترعرع و ينمو دون أن يكلف نفسه عناء البحث عن أولويات الحياة و آخر في نفس الفترة الزمنية يولد و يترعرع و يموت دون أن يجد أبسط مقومات الحياة الكريمة.

إنّ هذا التناقض الحاد لا يمكن له إلا أن يولّّد داخل الإنسان المقهور تلك النزعة العدوانية المدفونة من قبل الأخلاق و الأديان و الكتب السماوية و الحكام و القوانين و الدساتير…بل إني أكاد أجزم أنّه لن يكون للإنسانية أي معنى إن لم ينهض الإنسان المضطَهد و يتمرّد على كل الأعراف التي كبّلت توقه للتحرر من براثن الإستغلال و الخصاصة. فالثورات داخل المجتمعات الطبقية التي يصل فيها التناقض إلى أقصاه هي محرك التاريخ بالإضافة إلى أن سياسات الحكومات الاقتصادية والاجتماعية و حتى الثقافية و التعليمية في كل دول العالم هي المسؤول الأول عما يحدث داخل المجتمع البشري، فالتوزيع الغير عادل للثروة و السياسات التربويه القائمة على تأبيد واقع الجهل و التخلف و غياب التثقيف الجنسي و غياب العلوم الإنسانية من فلسفة و آداب و تاريخ و علم إجتماع و علم نفس.. في المراحل الأولى من التعليم الأساسي لأكبر دليل عن عدم كفاءة البرامج التربوية في اتجاه صقل شخصية الإنسان و سلوكه.

إنّ المتأمل في الإنتفاضات و الإحتجاجات الشعبية المطالبة بالعيش الكريم غالبا ما تكون سلمية لكنها تجابه من قبل السلطات الحاكمة بالقمع و التنكيل و الإعتقال. و لعل من بين الشعارات التي رفعت في الشيلي الأكثر تعبيرا عن حقد الإنسان الجائع و المهان “إذا لم يتوفر الخبز للفقراء لن ينعم الأغنياء بالأمان.”

يتبين إذن أن للعنف دور في التاريخ، فهو المحرك له، والمولد للمؤسسات السياسية والمثبت لها، نظرا للطبيعة العدوانية للإنسان، ونظرا لتعارض المصالح وتناقضها.

إنّ الإنسان ليس سوى مرتبة لا يصل إليها كل البشر. و عندما نتحدث عن الإنسان علينا أن نتفحص البيئة الإجتماعية التي وجد فيها. فهو كما يقول كارل ماركس: “ليس صالحا أو طالحا بل هو ماتصنع منه الظروف”، ثمّ يضيف في نفس السياق “و إذا كانت الظروف هي التي تصنع الإنسان فيجب تكوين هذه الظروف بصورة إنسانية”. و حتى أختم، أريد أن أقول كما قال المفكر المتمرد ألبار خميس “في نهاية المطاف، الإنسان ليسَ مذنباً بالمُطلق؛ ذلك لأنّه لم يبدأ التاريخ! وفي المقابل هو ليسَ بريئاً بالمُطلق أيضاً؛ وذلك لأنه يُتابعه” .

محمد علي الباي