full screen background image
   السبت 20 أبريل 2024
ر

تحت الإقامة الكوفيدية…

بقلم الشاعرة فضيلة مسعي
مدينة قفصة ذاهلة، شاحبة ومنهكة بخطوات حثيثة تسير إلى الرّدهات المظلمة..تبدو بائسة ومهمومة كزهرة توليب أفرغت من رائحتها وجمالها وتركت لمصيرها المحتوم ولأذى أحذيّة المارّة على ضفّتي الطّريق .كلّ شيء حولها باهتا تماما كالمستقبل، فتق روحها يتّسع ويتمدّد كوادي بياش المجفّف، كحديقة عرباطة التي أعلنت الحداد على قطيع غزلانها، غمامة سوداء تربض فوق رأسها.
مؤلم جدّا حال هذه المدينة العجوز، همومها الرّتيبة تخنقها، القاذورات التي القوها في جوفها تقطع الأكسيجين عنها، شعور غريب كان يحرقها أكثر من الألم، أكثر من الأسى، في الحقيقة حالها ليست مفاجئة، والكورونا لم تضف شيئا غير أنّها قد أغلقت المقاهي بصخبها وهرجها ومرجها إلى ساعات متأخّرة من اللّيل صيفا وشتاء. عندما تجالسها تجدها مفاخرة متباهية كونها أول مدينة سكنها الإنسان في شمال إفريقيا. هذه الحقيقة تحزنها أيضا. ليست لأنّها العجوز وعدّت من السّنين ما يعجز التّاريخ عن حلّ شيفرة سنّها الحقيقي. هي العاصمة التّاريخية بلا منازع، لكنّها أيضا أوّل مدينة في عدد المقاهي وعدد الكراسي البلاستيكية الملوّنة المنتشرة على أرصفة طرقاتها، يؤمها اكبر عدد من خريجي الجامعات، لا شغل لهم غير إنفاق ما تبقى من الدنانير القليلة في جيوب آبائهم وأمّهاتهم على فناجين القهوة المصنوعة من البنّ المغشوش. يجلسون إلى المناضد بعيون شاردة، يشارك بعضهم بعضهم الآخر أعقاب السّجائر، يقضون أغلب ساعات النّهار وهزيع لا باس به من اللّيل في إحصاء شاحنات الذّهب الأسود التي تتسابق في سرعتها على شوارع محفّرة متهرئة.
كلّما مرّت شاحنة يلاحقونها بنظراتهم التّائهة في جوف الضّياع كمدينتهم والحسرة تغلي بقلوبهم مثل قدر مربّى التّين الشوكي، المربّى الذي ملّوا تناوله في وجبة الإفطار يوميا مع كسرة أحيانا تكون ناشفة.
هم في ريعان الشّباب ولا يزال في العمر الكثير، يحلمون بإفطار على مائدته فطائر العسل والبيض والكرواسون الفرنسي والجبن الشّهي واللّحم المدخّن، ويسيل لعابهم بين شفاههم لاشتهاء كوكتال العصائر وحلوى الألف ورقة كأترابهم في بعض المدن المحظوظة التي تتمعّش من ريع خيرات مدينتهم. الفسفاط أملهم الوحيد في الشّغل والعيش بكرامة، وفي تحقيق حلم الإفطار الباذخ والزواج في السنّ المناسبة. حتّى الحبّ صعب في هذه المدينة. ملّوا أن يحبّ أحدهم فتاتا بلا أمل، ليس لأنّ فتيات هذه المدينة لا يحترمن الحبّ بل يضحّين بقلوبهن وسعادتهن اضطرارا. تنتظر الواحدة منهن تحسّن ظروف ووضعية حبيبها سنينا، ثم تقرّر فجأة أن تذهب وتسنفر بحياتها كما يقول مسلسل الكرتون الذي استمتعوا بمشاهدته وهم صغارا. تتزوّج أحد أولاد العاصمة أو الشّريط السّاحلي. ومن تنتظر أكثر تموت عجوزا عذراء. الأمل بالتّشغيل يتضاءل من سنة إلى أخرى. لا يطالهم من الفسفاط إلاّ التلوّث والعطش والسّرطان الذي توحّش واستفحل. المولدي بن الطّاهر الأبرص أضرم في جسده النّار ليلة زفاف حبيبته من أحد أبناء الجالية القادمين في عطلة الصائفة الماضية من إيطاليا. ترك أبوين عجوزين يتمنّيان طارقا لبابهما بعد رحيله. الحاجّة وسيلة فقدت عقلها وهامت على وجهها ولا نعلم أين هي الآن اثر عثورها على ابنها مشنوقا في سقف غرفته أحد الصباحات. تركت ثلاث بنات يتيمات أب قضى في الدّاموس في بداية التسعينيات. “جردة بورقيبة ” بيتهن الآن وهي حديقة لا يتعدّى قطرها من الشّرق إلى الغرب ومن الشّمال إلى الجنوب العشرين مترا. تضم ّبعض أشجار الكاليبتوس والدّفلى وكراس يسع الواحد منها ثلاثة أشخاص ولا يتعدّى عددها الجملي الثّمانية. في الحقيقة المساحة صغيرة ولا تسمح بأكثر من ذلك. لكن أهالي المدينة يرفضون التخلّي عنها لأنها متنفّسهم الوحيد رغم مشاكلها الجمّة. بنات وسيلة كما ينادونهن يقضينا ليلهن ونهارهن صحبة المشرّدين أمثالهن والسّكارى ومدمني القنّب الهندي و”القيشم” المصنوع من أعذاق النّخل. كان يوم أحد لا دوام لدي. خرجت لأتنفّس هواء نقيّا بعض الشّيء في البراري.
في طريقي إلى مرتع الأجداد من الهمامة عمرة بفتح العين لمحتها مقرفصة فوق مرتفعات عرباطة. على مقربة من برج الرّومية الذي استعمره الإرهابيون بعدما كان معقل المجاهدين ضد الاستعمار الفرنسي ومسكن رعاة الماشية من الغنم والماعز. صعدت بسرعة فائقة وكأنّ قوّة خفية حملتني إلى هناك. لم تكن غير القدرة الإلهية التي شحنتني وسهّلت سيري في الشّعاب الوعرة والمرتفعات الشّاهقة التي لا يعرف سفوحها إلا النّسر وأولاده، وجدتها ساهمة كعادتها، اقتربت منها حدّ الملامسة في الزّمن الكوروني المقيت. لم تكن تضع الكمامة مثلي. أعلم أنّها سمعتني أحييها لكنّها لم تردّ السّلام علي، بل رمقتني بنظرة معاتبة عتبا شديدا. قلت وقد فهمت رسالتها القاسية:
-تلومينني قفصة لأنّني لم اكتب عنك كثيرا؟ .قولي بالله عليك.. كيف سأكتبك؟. في الحقيقة أنا أستحي منك. كيف أقرّ بأنّي من النّخبة النيّرة التي خذلتك؟. كيف أكتب بأنّ شريان الاقتصاد وبقرة البلاد الحلوب تتصدّر نسب البطالة والعطالة والجريمة والانتحار؟. لذلك سأواصل دسّ رأسي كالنّعامة في الرّمل، سأهرب مع قلمي من جديد. ليس خوفا من السّلطة أو بطش سياسيين رفعوا من زمن شعار الفساد. ولا خوفا من إبعاد ونفي وسجن. بل لأنّ قلبي لا يقوى على سرد مأساتك. مأساتك أكبر من أن أكتبها. لا أريدها أن تتحنّط في صفحات كتاب، لأنّ أهل البلاد لا يقرؤون. لمن سأكتب؟. للرّفوف؟. للعثّ؟.للفئران؟.هل سأغيّر شيئا؟. هل سأفيدك؟.طبعا لا. لذلك لن أكتب الآن. سأترك قضيّتك بكفالة الحناجر والمنابر والمسيرات التي تجوب يوميا الشّوارع. أنا لن أخيفهم بكتاب يسكن الرفّ أو ربّما يعدم في المطابع. لكن أنت عيون الذّهب الأسود يمكن أن تخيفيهم. يمكن أن تغيّري الكثير. يمكن أن تكوني العاصمة الاقتصادية والعاصمة السياسية حتّى. يمكن أن تكوني جميلة الجميلات. والأجمل منك تكون البلاد. ههه سننزل معا إلى مواطن العمران الآن وهناك سأتركك ترتشفين الشّاي في مقاه على الطرقات. وسأجلس إلى مكتبي بغرفة في بيتي المتواضع لأكتب .. تعلمين كم هي مزرية ماديّا وضعية الأدباء. الحظوة فقط للمغنّين والراقصين مع احترامي لكلّ الفنون. قلت لأكتب لكن ليس عنك. سأكتب عن حبيبين عربيين. عن ياسر وسولافا. وعن أصدقائهما ورحلتهما في الشّرق والغرب. تلك الشّعوب لا تزال تقرأ لذلك سأواصل الكتابة لها. أما في ما يخصّك فسأصدح بصوتي وأسكت قلمي حتّى يقرأ شعبي. عنوان كتابي سولاريكا. لن أحرمك من معرفة اسمه. النّاس هنا يكتفون بالعناوين ولا يذهبون إلى جوهر المواضيع وحقائق الأمور. من الكتب لا يعرفون إلاّ العناوين. فقط رفوف مكتباتهم تعرف. ربّما الغبار يقرأ عوضا عنهم. ربّما الفئران تحفظ بعض الكلمات. سأعود وأكتب لهم عندما يقرؤون. وسأعود لنشر ما أكتب هنا عندما أرى أحدهم بحافلة أو قطار أو بجردة بورقيبة أو في إحدى قاعات الانتظار أو بالمقهى حتّى وبيده كتابا. ساعتها فقط سأطمئنّ على شعبي وله سأكتب وأكتب. أمّا الآن فلست مستعدّة أن أموت مرّتين. أنا من أنصار نظرية المؤلّف لا يموت. وحدها القراءة لا تجعله يموت. يا الهي ما هذا الموت البطيء؟. أتسمعين سارينات سيّارات الإسعاف تبدّد سكون النّهار..اسمحي لي الآن. نسيت أنّنا في حجر صحي شامل..فيروس كوفيد19 يفرض علينا الإقامة الجبرية..هيا قفصة أدخلي قمقمك..الفيروس قاتل أكثر من الجوع والسّرطان والبطالة..هذا الهمّ الجديد سينسيك همّك ريثما يغيّر الله حالا بحال. ما ردّك؟…نعم؟..قولي. لي القدرة على سماعك..فقط أنا من يمكنها سماعك. الله حباني بهذه الموهبة الاستماع إلى المدن المنسية..ولك بالذّات. لا تقولي أنّني لا أنصت إلى حجرك الجلمود عندما يتكلّم..هيا قولي. وقد تجهّم منظر المدينة:
-ولدت في الضّاحية المنسية من التّاريخ..عندما صرت شابّة تنضح جمالا وحيوية اكتشفت أن ثدييا يشخبان أسلاكا من الذّهب الأسود..فرحت لأنّني ككلّ جميلات العالم..حلمت بحليّ يوشّي صدري ويغطّيه حتّى أخمصي قدميّا. حلمت بوجبة غداء فاخرة وخبز في العشاء طريّا. حلمت بفاكهة وغلال وكسوة محترمة لأولادي. وهي تكشف عن نهديها:
-لكن كما ترين بدأتا تتهدّلان كثديي عجوز حتّى أنهّما صارتا تشبهان حبّتي تين ناشفتين..من كثرة استنزاف حليبهما..
-أووف قفصة وجعك أكبر من أن يحتمل.
-لذلك أصمت…انتظري أنت فعلا تستمعين إليّ..لم أكن أعلم أنّ بعض البشر يستمعون للجماد..فعلا موهبة خارقة.
-الكتّاب والشّعراء والفنّانون..اصطفاهم الله لأعظم المهمّات حتّى يخفّفوا آلام النّاس.
-أنت ابنتي ..دائما أقولها.
-قفصة أنت تسكنين قفصي الصّدري..لكن أهلك لا يقرؤون..لمن سأكتب وهم في شرودهم يعمهون؟.
-نعم. استودعك الله..علي أن لا أكسر الحجر الصحّي..فجائحة الصّين تفتك بالعباد..
-بل هي جائحة أمريكا والصّين وكلّ الدول الغربية. -نعم..نعم..قرأت تقرير لوغانو عن اتفاقية الحدّ من سكّان العالم وخاصّة كبار السنّ والمرضى وسياسة التّقليص من تكاثر شباب الأفارقة.
– أذهلتني قفصة..أنت مطّلعة جدّا..هل تقرئين كثيرا؟. وهي تمسك بإحدى ضفيرتيها الرّماديتين:
-أنا قفصة مدينة التّاريخ والحضارة..مدينة الفلاسفة والشّعراء والمؤرخين والأدباء..أنسيت؟.
-هههههه كيف أنسى يا ابنة القلب؟. لكن للأسف أولادك لا يقرؤون..سيارة الإسعاف وسيارات الشّرطة تذّكر بالحجر..استودعك الله.
-إلى اللّقاء يا حبّة القلب..بعد خروجك من الإقامة الكوفيدية. عندها سآتيك بروايتي سولاريكا ما دمت على اطلاع بما يجري..إلى اللّقاء قريبا إن تركتني الكورونا بعد هجمتها الشّرسة علي في المرّة الأولى. لا تطعيم ولا حماية كالعادة..الله وحده حامينا..
-ههههه التطعيم هههههه قلت التطعيم. أعلنوا عن توفير كمية ضئيلة للسياسيين طبعا وأهاليهم وأحبابهم ثم بعض من…
-لنا الله فعلا ..عليه توكلنا وهو خير العارفين. هم في الصفوف الأولى في مواجهة الجائحة من القطاع الصحّي .بعد ذلك يأتي دور الجيش والأمن إن تبقّت بعض الجرعات وأنا أشكّ أنها تكفي السياسيين وأحبائهم. -و بقية الشّعب..حوالي أكثر من 10 ملايين نسمة ما من حماية لهم؟.
– طبعا لهم. لهم سياسة القطيع. سيصابون عن بكرة أبيهم ويموت من يموت ويعيش من يعيش.
-ما فائدتهم.. لا أظنّ نظرية المؤامرة محبكة إلى هذه الدّرجة.
-فائدتهم تغطية عجز الصّناديق الاجتماعية بعد أن نهبوها. التقليص من عدد السكّان بالتّقليص من حدّة البطالة وخاصّة أصحاب الشّهائد العليا الذين سوّفوهم بوهم قانون 38. ليجلسوا مطمئنّين على كراسيهم الوثيرة.
-تقولين لا حام لنا إذا.
-وحده الله حامينا..لا نعلم..ربّما ينقلب السّحر على السّاحر.. ساعتها سنقول نجونا من فتك جرعة فايزر هذه..هههه. أو يأتي المنقذ من هذا الشّعب العظيم الأبيّ.