يواكب روّاد المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة” خلال النصف الثاني من شهر نوفمبر 2019 سلسلة ندوات علميّة، تنظّمها الأقسام العلميّة بالمجمع. تهتمّ الندوة الأولى بالأنوار الغربيّة ومصادرها الخارجيّة، ينظّمها بيت الحكمة بالاشتراك مع الجمعيّة التونسيّة للبحوث في الأنوار وجمعيّة الدراسات الفكرية والاجتماعية بتونس ومؤسّسة مؤمنون بلا حدود، وذلك يومي 15و16 نوفمبر 2019.
وينظّم قسم العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بالتعاون مع المعهد العالي للغات بتونس (جامعة قرطاج) يومي 21و22 ندوة دوليّة حول “الفكر الحر حاضرا، تكريما للراحل عبد الوهاب المؤدب”.
كما ينظّم قسم الدراسات الإسلاميّة يوم الأربعاء 27 نوفمبر 2019 يوما دراسيا حول” علم الكلام، القديم والجديد، في علاقته بالمعرفة التاريخيّة وبالواقع الإسلامي”.
البرنامج
تصدير
الأنوار الغربيّة ومصادرها الخارجيّة
لا ينكر أحد اليوم مدى مساهمة فلاسفة الأنوار الكبيرة في تقدّم الإنسانيّة برمّتها، إذ أنّنا نَدين لهم ببزوغ فكر جديد، وبطريقة أخرى في التفكير، وفي المحصّلة ندين لهم بالحداثة. ويبدو أنّ الدارسين المختصّين في عصر الأنوار يقرّون بأنّ كلّ شيء قد تمّ التفكير فيه من طرف هؤلاء الفلاسفة وبهم أيضا مثل مسائل الدولة والحريّة والفرد. وبناء على ذلك يتمّ الحديث عن تأثير فلاسفة الأنوار في التحوّلات السياسيّة، وفي الثورة الأمريكيّة، وفي الثورة الفرنسيّة، ومؤخّرا تتمّ محاولات، بقطع النظر عن قيمتها، لإيجاد مؤشّرات تؤكّد التأثير، السلبي أو الإيجابي، لفلاسفة مثل روسو ومونتيسكيو وأعلام آخرين بارزين من عصر الأنوار، في ما سُمّي “الربيع العربي”.
ولكن، وفي حدود ما نعرف، لا توجد دراسات شاملة (ندوات، أو أطروحات أو أعمال أخرى) حول مساهمة الثقافات المختلفة في تشكيل الأنوار وبزوغها. ويبدو أنّ هذا النقص في الإقرار بإضافة مختلفة الثقافات إلى الفكر الإنساني قد ولّد احترازا وحتّى رفضا تُجاه الغرب وتُجاه كلّ ما من شأنه أن يقدّمه للإنسانيّة. لم يكن للأنوار الأوربيّة أن توجد دون أخذ بعين الاعتبار كلّ ما يأتيها من خارجها، ولكن هذه الروافد الخارجيّة لم تأتِ قطعا ذاتيّا وإنّما لأنّ أهل الأنوار عرفوا كيف يجدونها، وكانوا أحيانا يذهبون للبحث عنها في مواطنها، سواء بالبحث عنها في الكتب (وهو مثلا ما تمّ التعارف على تسميته بالاستشراق العالِم السابق وبكثير استشراق العهد الاستعماري)، أو حتّى بخلق هذه الغيريّة، وإن جزئيّا، للمساعدة على التفكير.
إنّ الأنوار الأوربيّة إذن ليست مذهبا مُكتملا، إنّها مسار وموقف فكريّ تخمّر ثمّ بُني في القسم الأكبر منه انطلاقا من مصادر خارجيّة مختلفة ومتنوّعة ساهمت حركات الترجمة في جعلها مُتاحة. وكُثر هم أولئك الذين ساهموا بأفكارهم في انعتاق الإنسانيّة. وحتّى لا نذكر سوى ربّما الأكثر شهرة، فإنّ ابن رشد قد اعتبر أحد “الآباء الروحيّين” للفكر الغربي خلال القرون الممتدّة من الثاني عشر إلى السابع عشر، وأحد المؤسّسين للعلمانيّة في أوربّا الغربيّة. وكان ابن سينا الذي أطلق عليه لقب “أمير العرب” على عهد لويس الربع عشر، قد أثّر طويلا بكتابه “القانون” في ممارسة الطبّ في الغرب. وكذلك ابن خلدون الذي تمّ اكتشافه أوّلا في أوربّا منذ القرن السابع عشر بفضل المستشرق بارتيليمي دي هاربلو (Barthélemy d’Herbelot ) فإنّه ألهم كثيرا ديدرو (Didrot) و أليمبار(Alembert) في “الأنسيكلوبيدي” (L’Encyclopédie) (1751 – 1772). واعتبر بعض المحلّلين أنّ ابن خلدون هو سلف ماكيافيل، ومونتيسكيو وأوغيست كونت وماكس فيبر[Olivier Carré, « À propos de la sociologie politique d’Ibn Khaldûn », Revue française de sociologie, vol. 14, 1973, p. 115-124. ].
وسمحت الرحلات إلى الصين باللقاء المعرفي بين الفكر الغربي والفكر الشرقي. وكانت الصين مرجعا متداولا لدى فلاسفة الأنوار الذي كان هدفهم إعادة بناء أوربّا. لقد كانت الفلسفة الصينيّة بالذات محلّ إعجاب مناصري “الاستبداد المتنوّر” ومحلّ نقد معارضيه. ويبدو أنّ فارس قد أتاحت المؤيّدات والأمثلة للكتّاب والفلاسفة في عصر الأنوار مثل فولتير ومونتيسكيو، وكذلك للـ “موسوعيّين” حتّى يشنّوا المعركة ضدّ تعصّب عصرهم. وأتاحت الاكتشافات الكبرى أيضا للأوربيّين للقاء بثقافات وحضارات العالم الجديد على الرغم من أنّ ذلك كان مصحوبا في أغلب الأحيان بالاحتقار والتعالي الحضاري الذي تحوّل سريعا إلى تمشّ استعماريّ. لقد لعبت كلّ الثقافات دورا مُهمّا في مسار إعادة بناء العالم الغربي، وبذلك يصبح من المشروع اليوم التساؤل عن مصادر فلسفة الأنوار تلك، وعن إنتاجاتها النظريّة والعمليّة، والبحث في مناطق المتوسّط وآسيا وأمريكا … لمعرفة إن كانت تلك المصادر قد وُجدت أو تنسيب وجودها في المستوى النظري وفي المستوى العملي. إنّ الأمر يتعلّق برصد ما قد يكون شكّل في تلك المصادر الخارجيّة، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، مثالا بالنسبة إلى فلاسفة الأنوار.
إنّ ما نقترحه إذن في هذه الندوة، التي نروم أن تكون متعدّدة الاختصاصات، هو مساءلة الأنوار الغربيّة عن مصادرها الخارجيّة، بمعنى مصادرها غير الأوربيّة، من قبيل اليونانيّة-الرومانيّة، والعربيّة، والصينيّة، والفارسيّة، والتركيّة وحتّى الأمريكيّة… تلك المصادر التي ألهمت فكر الأنوار أو مدّته بأغراض، وصور وأمثلة، وحجج. وباختصار شكّلت له مجالا للتفكير.
كلّ الاختصاصات معنيّة بالمشاركة في هذا البحث: الأدب، والعلوم، والأركيولوجيا، والأنثروبولوجيا، والترجمة… ماذا قرأ مفكّرو الأنوار؟ ما هي طرق اطّلاعهم على الأعمال الخارجيّة؟ هل كان لهم اطّلاع مباشر أو غير مباشر على تلك المصادر الخارجيّة؟ ما هي الأعمال التي تمّت ترجمتها؟ ومن قام بترجمتها؟ ما هي الأعمال الخارجيّة التي تمّت العودة إليها أكثر من غيرها في ذلك العصر؟ وكيف كان التعامل معها؟