منذ ما يزيد عن العشر سنوات أغلق المسلخ البلدي التابع لمعتمدية أم العرائس، وهو المسلخ الرسمي الوحيد الذي كان يزود السوق المركزية للمدينة باللحوم الحية. ولئن جاء إغلاق المسلخ إثر انتفاء جدواه الاقتصادية وسقوط أجزاء من جدرانه وانقطاع تدفق المياه والتيار الكهربائي به، فإن السؤال الذي لم يستوقف الكثيرين منذ ذلك الحين: ”من أين تجلب اللحوم الحية للسوق؟”
ووفق ما أفادنا به بعض ممارسي المهنة الذين التقينا بهم على مقربة من أماكن بيع اللحوم، فقد ظهر منذ إغلاق المسلخ البلدي نشاط جديد أطلق عليه “الذبح غير المرخص” أو “المسالخ العشوائية”، حيث يلجأ أغلب الجزارة حسب شهادة أحدهم إلى الذبح بالقرب من مقر سكناهم للتخلص من الفضلات والأحشاء داخل قنوات التطهير المربوطة بمنازلهم، أما ما تبقى من دماء فينتثر بمكان الذبح ليكون عرضة لشتى أنواع الحشرات، علاوة على أن البعض الآخر يلجأ إلى الجبل المتاخم للمدينة للذبح والسلخ والتخلص من الفضلات وسط الطبيعة. وعدا مسألة التراخيص القانونية التي لا تمتثل لها هذه المسالخ الموازية فإنها أيضا تطرح مشكلة جوهرية؛ وهي مدى التزامها بالشروط الصحية وبالتالي مدى سلامة اللحوم المتأتية منها للاستهلاك الآدمي.
يكشف هذا التحقيق لقسم العدالة البيئية بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أن تداخل الصلاحيات بين ثلاث جهات رسمية وهي وزارة الصحة ووزارة البيئة والبلدية يمثل حاجزا أمام تفعيل الرقابة على الذبح خارج إطار القانون.
مناطق عمرانية تحولت إلى مسالخ ناشطة
للوهلة الأولى تمر من بعض الطرقات التي تحولت إلى مسالخ ناشطة بأم العرائس لترى مشهد الدماء تلطخ كل مكان. عمليات ذبح للأغنام في الهواء الطلق وبالقرب من قنوات التطهير، ذبائح تنتفض من حول الواقفين فتلوث ملابسهم دون قصد في مشهد اعتاده الأغلبية هنا. تتمعن النظر لتكتشف بأنها وليمة أعدت لإنسان تستقبلها الحشرات وتدور حولها القطط عسى أن تغنم بقطعة منها. مشهد ينذر بكارثة بيئية وصحية حقيقية كون انعدام النظافة فيه يتيح انتقال الأمراض والعدوى في ظل بيئة تغيب فيها كل الشروط الصحية إلى جانب افتقارها إلى أبسط مقومات المراقبة والاهتمام حيث يمارس فيها الذبح بطريقة عشوائية.
وقد عملت تونس كغيرها من البلدان على تركيز هيئات محلية صحية وبلدية في جميع المناطق العمرانية تسهر على تنفيذ القوانين المتعلقة بتنظيم قطاع الذبح بالإضافة إلى سن العديد من القوانين من أجل التصدي لظاهرة الذبح الموازي.
قوانين تنظم القطاع
في مارس 2010 تم إصدار الأمر عدد 360 المتعلق بالمصادقة على المخطط المديري للمسالخ[1] الذي يتضمن فصول وأحكام قانونية تضبط كيفية تركيز المسالخ والطرق الصحية والوقائية الواجب إتباعها أثناء التعامل مع الذبائح المجهزة للبيع. وقد جاءت فصول هذا المخطط لتحديد أسس التعاطي الصحي مع الذبائح حيث نص الفصل الثالث منه على أن يخضع تركيز المسالخ إلى دراسة المؤثرات على المحيط ويكون مصادق عليه من قبل الوكالة الوطنية لحماية المحيط، وهذا ما يدل بالأساس على حجم الخطر البيئي الممكن أن يسببه الذبح غير المرخص، أما الفصل الرابع فقد تم فيه التأكيد على وجوبية تركيز المسالخ على أساس الاستجابة للقواعد الفنية والصحية والبيئية اللازمة وذلك للحد من انتشار الأوبئة ووقف تقليص انتقال الأمراض المعدية إلى البشر. أما الفصل الخامس من المخطط ذاته فيشير إلى ضرورة تركيز المسالخ خارج المناطق العمرانية. وهذا ما لا نجده متوفرا في نقاط بيع اللحوم بأم العرائس حيث تتم عمليات البيع والشراء دون تطبيق أي بروتوكول صحي أو وقائي منصوص عليه بالقانون المنظم لقطاع الذبح.
أمراض بكتيرية وتداعيات صحية
الاثنين 14 سبتمبر 2020كنا على موعد مع أحد الأطباء البياطرة في المدينة الذي أكد أن هنالك العديد من التداعيات الصحية الخطرة الناتجة عن غياب مسلخ بلدي مهيأ بالمدينة وتزايد ظاهرة الذبح العشوائي، وأهم هذه الأمراض إنتشار “الحمى المالطية” التي تصيب المواشي وتنتقل إلى الإنسان بسهولة حسب توصيفه، وهذا المرض هو عبارة عن ” بكتيريا تسببها أنواع “البروسيلا” المختلفة التي تصيب بشكل رئيسي الماشية والأغنام والماعز وينتقل عن طريق الاتصال مع الحيوانات المصابة بشكل مباشر أو غير مباشر”.[2] مشيرا في ذات السياق إلى أنه يوجد ما يزيد عن 3000 حالة إصابة للماشية من أغنام وماعز بمدينة أم العرائس وأريافها بهذا المرض مع تواصل عمليات الذبح غير المراقب مما يشكل أزمة حقيقية تنذر بكارثة صحية. ومن جهة أخرى أكد أيضا على وجوبية الفحص قبل الذبح وبعد السلخ من قبل طبيب بيطري مختص مما يعني ضرورة فحص الذبائح على وجه السرعة فور الانتهاء من السلخ ويشمل ذلك فحص الذبيحة بالعين المجردة وإعادة فحصها ثانية للتقصي عن المخاطر التي لا يمكن التفطن اليها بالعين المجردة. إضافة إلى فحص ثالث أكثر تفصيلا للأجزاء الصالحة للاستهلاك الآدمي والتي سيتم استهلاكها من قبل الإنسان. وذلك من أجل التأكد من سلامة اللحوم وخلوّها من أية أمراض خطرة.
أما فني رئيس الصحة بالمستشفى المحلي بالرديف “أسماء العابد” فقد أكدت بدورها على أهمية توفر إطار صحي ووقائي أثناء التعامل مع الذبائح والحيوانات المجهزة للذبح وأهمها ضرورة استعمال مياه نظيفة ومراقبة ونقل اللحوم في وسائل نقل مهيأة وبدرجة حرارة لا تتجاوز 08 درجات، مشيرة إلى أن عدم الالتزام بهذه التوصيات والشروط الوقائية تكون نتيجته انتشار التسمّمات الغذائية الجماعية والناتجة عن تحويل اللحوم في ظروف غير صحية. وتغيب كل مراحل المراقبة هذه في عمليات الذبح العشوائي بالمدينة مما يجعل اللحوم المعروضة للبيع غير صالحة صحيا للاستهلاك ولا تستجيب لأي من شروط السلامة المنصوص عليها، كما يجعل الوضع الصحي العام بالمعتمدية أمام خطر انتشار عدة أمراض معدية.
هل ستنفرج الأزمة بحلول 2021؟؟
الثلاثاء 15 سبتمبر 2020 كانت لنا جلسة حوارية مع الناطق الرسمي بإسم البلدية السيد ونيس بن يونس تم فيها طرح مجموعة من النقاط تمحورت بالأساس حول مدى تطبيق البلدية للأحكام القانونية فيما يتعلق بالمسلخ الذي أصبحت إعادة تهيئته ضرورة ملحة يتطلبها الوضع البيئي والصحي بالمدينة. وقد أكد لنا السيد بن يونس رصد البلدية لمبلغ مالي قدره 50 ألف دينار لصيانة المسلخ وقد تم تقديم الملف لوزارة التجهيز لدراسته والمصادقة عليه، مؤكدا في ذات السياق عقد جلسة أثناء شهر جويلية 2020 بين المستشارين البلديين لمتابعة هذا الملف عبر النظر في الإمكانيات المادية واللوجستية والبشرية المستحقة في هذا الغرض. مشيرا إلى أنه بالإمكان الانطلاق في التهيئة خلال الأشهر القليلة القادمة ليكون بذلك المسلخ مجهزا وصالحا للاستغلال مع حلول سنة2021.
صور حينية لوضعية المسلخ البلدي بأم العرائس
وإلى حين اكتمال التهيئة وعودة المسلخ في نشاطه الفعلي تبقى ظاهرة الذبح العشوائي من الإشكاليات الرئيسية في المدينة كونها تجمع جانبين على غاية من الأهمية وهما الصحة والبيئة. وتغيب الجدية من طرف الجهات المركزية بالنظر الى دورها القانوني وأولها الوكالة الوطنية لحماية المحيط والوكالة الوطنية للتصرف في النفايات ووزارة الفلاحة باعتبارها مسؤولة عن سلسلة القيمة الغذائية في قطاع اللحوم، كما يغيب الرصد الميداني لهذه الظاهرة والتقارير اللازمة لتقييم المخاطر الناتجة عنها والتدخل لوقفها عن طريق ردع المخالفين وتكثيف حملات المراقبة الصحية. وفي ظل انتشار بقايا الذبح العشوائي في عدة أماكن بالمدينة وتحللها بفعل الحرارة والعوامل الطبيعية فإن الخطر يظل قائما وانتشار الأمراض والأوبئة يبقى نتيجة حتمية في غضون تواصل الوضع على هذه الشاكلة من السوء. وعليه فإن المسؤولية في إصلاح الوضع ملقاة على عاتق بلدية أم العرائس لكونها تمثل السلطة المحلية من أجل الحرص على المصادقة على مشروع تهيئة المسلخ البلدي من قبل وزارة التجهيز خاصة وأن العائدات اللازمة لذاك مرصودة بخزينة البلدية. وتجدر الإشارة إلى أن مسؤولية الإطار البلدي مضاعفة حيث أنه لم يحرك ساكنا تجاه وضعية المسلخ منذ تركيزه سنة 2018. وعليه فإن الأوان قد حان لاتخاذ التدابير الصحية والوقائية من أجل الحد من المخاطر المحدقة بصحة سكان الجهة.