بقلم:
رياض السبوعي ناقد مسرحي
فتحي الهداوي…عذرا على عبث الكلمات…أو ربما شذرات عشق…أو هي سطور مبعثرة…أو ربما تشظي كلمات. منذ مدة ونحن نفكر في كتابة هذا المقال لكننا ترددنا كثيرا وخانتنا مفردات اللغة وهجرتنا المعاني قبل أن نخط بأقلامنا هذه الأسطر القليلة المبعثرة. سككنا خوف عظيم ورهبة شديدة شبيهة بأول مرة تطأ فيها أقدامنا الركح. تردد وخوف، ثم رفض لكن دافعية عميقة لا أدري من أين جاءت؟ دفعتنا لنخوض تجربة الكتابة رغم كل ما تحوم به من مخاطر في حق هذا الرجل الخارق الذي لا يشبه أحد. كيف لا نخاف ولا نتردد ونحن إيزاء الحديث والكتابة عن مبدع كرس كل حياته في سبيل الإبداع والتمثيل. كل مفردات اللغة، وكل الأشكال التعبيرية بإختلاف ألوانها لن توف حق هذا الرجل. فتحي الهداوي بمجرد ذكر إسمه فقط يدفعنا للحيرة والتساؤل، والشك. شك في ماذا؟ إنه شك ديكارتي كوجيتي كطريق لليقين. يقول ديكارت “إذا أردت أن تكون باحثا صادقا عن الحقيقة، فمن الضروري أن تشك ما لا يقل عن مرة واحدة في حياتك” اذا لم نشكك في هذه العلامة والايقونة التي ترفض أن تموت فكيف سنصل لها حتى نتمكن من كتابة ما سوف نكتب بصدق وعفوية تامة؟ إن لم نشكك في مدى الأثر الذي خلقته، وخلّفته هذه الأيقونة في تاريخ الدراما، السينما، والمسرح فإننا لن نصل إلى ماهو حقيقي اذا لم يخضع للشك. يعذار ديكارت قد أخذنا منهجك وأسقطناه على علامة مضيئة من العلامات السيميولوجيا في وطني. لو أعدنا شريط الذاكرة قليلا لثمانينات وتسعينيات القرن الماضي سنجد، ونعثر على الأثر الفني الذي خلّفه هذا المبدع. ولو سقطنا في ذكر أعماله ربما سنظلم الرجل تاريخيا لكن لا يمكننا أن ننسى العوادة، عرب، غبار الالماس، صفايح ذهب، عصفور سطح، وغيرهم الكثير إضافة إلى الأثر الذي تركه من خلال مشاركته في الدراما العربية. إذا كان عمره البيولوجي تسعة وخمسون سنة وبضعة أشهر فإن عمره الفني يتجاوز القرن وأكثر. لا يمكننا الحديث عن الدراما التونسية الرمضانية دون ذكر هذه العلامة الفارقة. للإسم وظيفة إنتظارية وإنشائية -كما علّمنا أستاذنا محمد الهادي الفرحاني- تجعلنا ضمنيا ننتظر كيف سيكون ظهوره؟ ماهو الدور الذي سيلعبه؟ ماهي طرق وتقنيات أدائه؟ ماهي…وماهي…كيف…وكيف…لماذا…ولماذا… كم هائل من الأسئلة والتساؤلات تسقط علينا دفعة واحدة كإنهيار الصخور. أسئلة كثيرة تسكن العقل والمخيلة الى درجة أننا صرنا نرفض البحث عن الأجوبة فمهمة المسرحي، السينمائي هو أن يدفعك للتساؤل، للحيرة، للشك ومن ثمة التحليل والتأويل ولا يقدم لنا حلولا وأجوبة هذا ما علمتنا المدرسة البريشتية. يقول برتولد بريشت :” على الجمهور أن يعي الديالكتيك لكي يتفهم طبيعة ما يحدث:” وفتحي الهداوي من خلال شخصيته نجح في خلق هذه الجدلية بينه هو كممثل وبين الجمهور. هذه العلاقة الديالكتيكية تخاطب عقل وفكر المشاهد قبل عواطفه ، لذلك لا يوجد دور يلعبه هذا الرجل إلا ويترك فينا أثرا وكمًّا هائلا لا ينتهي ولا يتوقف من التساؤلات. فعند الحديث عن فتحي الهداوي تغيب المناهج، والمدارس، وتقنيات فن التمثيل منذ الإغريق إلى الآن، وإلى بعد الآن وهنا وهذا ليس غرورا بل لأننا في حضرة مدرسة إبداعية بالمفهوم المسرحي الإبداعي، منهج مجدد، متجدد لا ينتهي. تجاوز التقنيات التي درسناها في معاهد المسرح. وأسس لأساليب جديدة نغوص في البحث عنها دون البدء فيها وترفض أن تبدأ فماذا نقول عن نهاية التي إستحالت ان تنتهي؟؟ فتحي الهداوي…. عذرا على عبث الكلمات شاهدنا هذا المبدع في أدوار متعددة ومختلفة. عاطفة، وجسدا، وكل الميكانيزمات النفسية، والحسية، والإبداعية لهذا الرجل تستطيع إحتواء الكل دون كلل او ملل. شارك هذه السنة في ثلاثة أعمال مختلفة بشخصيات لا تشبه الأخرى. وبأداء فانتازي لا يمكننا وصفه والحديث عنه لكن من أين نبدأ. شخصية الحاج بوبكر إعتمد فيها الممثل على الميكانيزمات الداخلية والمنظومة النفسية في بناء شخصيته. الجانب السيكولوجي كان حاضرا بقوة بل هو الركيزة الأساسية التي ركز عليها الممثل بتلوينات مختلفة وبإحساس عميق يصل مرحلة التجلي الحر. يبكينا في شخصية بوبكر ويضحكنا في شخصية داندي مقاربة عجيبة تسكن ثنايا رجل إبداعي. كما أتحفنا المبدع فتحي الهداوي في مسلسل النوبة بشخصية مختلفة وإرتدى ثوب تمثيلي جديد نكاد لا نعرفه. ليس من السهل تمثيل شخصية شاذة تتواجد بكثرة في مجتمعنا بأسلوب فانتازي وأداء خيالي. الشاذ نفسه غير قادر بل والأكثر من ذلك عاجز على أن يكون مثل شخصية داندي. تعتبر مثل هذه الشخصيات من أكثر الأدوار صعوبة وتعقيدا على مستوى البناء والأداء. إن لم تخوننا الذاكرة تقريبا هذه المرة الأولى التي يتحرر فيها الممثل من نموذج الشخصيات الجدية الصارمة. المساحة الجديدة التي خلقها الممثل على مستوى اللعب والأداء نادر جدا أن تحدث مرتين. أي جرأة سكنتك؟ وأي شجاعة زرعت فيك لتمثّل دورا بهذا التعقيد؟ عذارا…إنك الأيقونة فتحي الهداوي قادر على كل شيء. وأي دافع دفعك حتى تتلون في شخصية داندي بل كدنا أن لا نعرفك ولا نكتشفك. عذرا…فتحي الهداوي…عفوا داندي كم من الوقت أخذت منك هذه الشخصية حتى تتقنها بهذا الشكل الناعم؟ كم من شاذ حاورت، لاحظت، خاطبت، ترقبت، تصفحت، جالست، قرأت، رأيت، حللت، ناقشت؟ كم….وكم…وكم؟؟؟ أي جنون هذا الذي يسكنك؟ وأي حب عظيم تملكك؟ أي عبقا كوميديًا تنفست وتحررت وأسست؟ وأي لعب هزلي، ساخر جددت؟ اي خفة إستطوطنت رجل في العقد السادس من العمر…عفوا داندي فعمرك إبداعي تجاوز القرن وأكثر. كم من الأسئلة التي مازالت عالقة في الذهن، والفكر والوجدان ولم تطرح في حق رجل وهب جسده، نفسه، حياته للتمثيل. أنت الطقس، أنت الممثل المقدس الذي تحدث عنه غروتفسكي، أنت القديس لا بل الممثل البورفرمير الذي وصل إليه غروتفسكي…لا أدري ربما أخطأت….يقول غروتفسكي”العمل مع الممثل المقدس يفترض وجود مخرج مضاعف القدسيّة أي قديس أكبر” مسألة القدسية هنا تصبح عملا مشتركا بين المخرج والممثل ومن هذا المنطلق ربما يكون عبد الحميد بوشناق وغيره.