بقلم:
محمد علي باي
“إنّ التاريخ يجعل الناس يحلمون، ويسكر الشعوب ويجعلهم يستعيدون ذكريات خاطئة، ويضخم إنفعالاتهم، ويترك جراحاتهم تنزف، ويعذبهم وقت جنوحهم إلى الراحة، ويخلق لديهم إمّا هذيان العظمة أو عقدة الإضطهاد.” هكذا عرّف بول فاليري التاريخ بوصفه محفّزا لمشاعر وانفعالات الشعوب حتى تشكل فكرة أو موقفا من حقبة تاريخية محددة في الزمن وفي الفعل. فالفكرة التي تأسست عليها المنظمة الطلابية في منتصف القرن الماضي وأغلب الأطراف السياسية ومختلف المشارب الأيديولوجية من قوميين، وبعثيين، وماركسيين لينينيين، وتروتسكيين، وماويين وفوضويين… اجتمعوا على فكرة رفض السائد انطلاقا من هوياتهم المختلفة والمتناقضة أحيانا. وفكرة الرفض أو التمرد كما يقول ألبار خميس هي لإنسان يقول : لا!! ، ولئن رفض فإنّه لا يتخلّى. فهو أيضا يقول : نعم، منذ أوّل بادرة تصدر عنه. إنّ العبد الّذي ألِفَ تلقّي الأوامر طيلة حياته يرى فجأة أنّ الأمر الجديد الصادر إليه غير مقبول. فماهي فحوى هذه “اللّا”؟ هاته “اللّا” الرافضة لها من المبرّرات والمصوّغات الكافية التي تجعلها تطفو على سطح الوعي الجمعي في شكل موقف من نظام سياسي معيّن. لكن هل أنّ ترديد هذه اللّا التي ترشح رفضا وتمرّدا كافية ومحدّدة لإصلاح الواقع أو تغييره بشكل جذري؟ لئن مثلت التعبيرات الفكرية والسياسية جملة من المبادئ والقيم والقناعات التي تسلح بها مناضلي الإتحاد العام لطلبة تونس في مواجهة النظام الكمبرادوري أو التابع أو العميل.. اختلفت القراءات والتوصيفات.. لكنّ النظام رغم همجيته وبطشه وقمعه أحيا فيهم معاني انسانية نبيلة وراقية أصدقها نكران الذات. كيف لا و قد تقاسموا الجوع والماتراك والغاز المسيل للدموع… وافترشوا الكرتون ليناموا في اعتصاماتهم.. حارقين أعقاب السجائر.. منشدين أشعار درويش ومظفر وسميح ومعين وناظم.. فهي غذائهم الروحي عندما تجوع بطونهم.. حالمين بغد أفضل ليس لجيلهم فحسب بل لأجيال تنطلق ممّا راكموا من نضالات. هم ليسوا بكائنات ملائكية أسطورية فهم بشر كالآخرين.. براءة الأطفال فيهم وكفر الكافرين..فالإغراءات والمواقع يمكن لها أن تجتث من القيم التي تربوا عليها. كم من رفاق تخاصموا من أجل موقع متقدّم عن الآخر صلب هياكل حزبه أو صلب المنظمة؟؟ كم من دماء سالت بين رفيقين ظنوا أنه لن تفرقهم الأقدار إلى أن فرّقهم عشق امرأة واحدة، كم من انتهازي خائن باع رفاقه قبل حتى أن يستجوب من قبل البوليس؟؟ كم من مناضل حقيقي كيلت له التهم جزافا من بولسة و تخريب لا لشيئ إلّا لأنّه لم يقبل أن يساق كما يساق القطيع؟؟ مادفعني للكتابة ليس لكي أنزع صفة أو أضيف أخرى للمناضل، بل لأعري واقعه كما هو : بقبحه و جماله. ما دفعني للكتابة ليس الدردشة أو الوقوف على أطلال المبدئية أو للتندر، أو لتعويض الفراغ الحاصل زمن الجزر، بل لإعادة صياغة و بناء ملامح حقيقية وصادقة تؤسس للمشترك بيننا، المشترك الذي يبني ويقدّم إجابة على سؤال : من نحن وماذا نريد؟!