full screen background image
   السبت 23 نوفمبر 2024
ر
عزلة من أجل الانسانية-التيماء

عزلة من أجل الانسانية..بقلم أحمد الساسي

وإذا كانتِ النُـــــــفوسُ كِباراً … تَعِبَتْ في مُرادِها الأَجسامُ

بِذا قَضَتِ الأَيَّامُ ما بينَ أَهلِها… مَصائِبُ قَومٍ عِنْدَ قَومٍ فَوائِدُ 

                                                                                     المُتَنبي                 

لوحة "رقصة الموت" الشهيرة للرسام الهولندي بيتر بروغيل

لوحة “رقصة الموت” الشهيرة للرسام الهولندي بيتر بروغيل

 من سيتحمّل وزر كل هذه الحماقات البشريّة وهذا الدهاء الوبائي؟ هم أنفسهم من مشوا طربا على حافة تعصب الملة والشعوذة الخطابيّة اللغويّة.

ومن سيعبر؟ من ينظرون لأرض الجنوب وعلى يمينهم أكثر من كتاب وفي عيونهم حبّ الحياة والإنسان.

 من هو المسؤول غضب الله على قوم حبّذوا الخنوع والخرافة خيارا؟ أم أنّها المخابر الأمريكية تهتك سور الصين الاقتصادي وتقطع طريق الحرير؟ أم هي مخابر الصين تسعى لتمريغ أنف أمريكا الترامبيّة الحمائيّة؟ أو لعلّهم اليهود ينتفون لحى باقي الإبراهيميين أو ما تبقّى منها؟  لعلّها الهند أرادت الانتقام للإنسان من شرق نسيَ عمقه وغرب محتضر؟

هكذا هي الفرضيّات هوجاء ما إن تجد مرتكزا حتى تتحوّل إلى نظريّة قتل أخرى.

سيتبارى الأفراد في الفناء على النجاة وتتبارى الجماعات في الكارثة على النفي وسيكون العضوي النفسي في شكل فيسيولوجي متاحا للعالم في صورة افتراضية وستتبارى الأرواح المرحة والحمقاء على الرقص والغناء والكتابة واختراع وسائط المقاومة ووسائل النجاة.

لعلّنا نعترف هذه المرة أنّ داخل الحماقات الكبرى هناك حماقة فرديّة وداخل سرديّات الفاجعة والنهايات هنالك دائما ألم وفقدان خاص.

هو حقا قلق يختفي خلف كائن أعمته مركزيّته الوهمية لإشباع وجوده المتعالي، كائن بشريّ يحصى لدى البيولوجيين كـ0.01 بالمائة من الكائنات التي بقيت على قيد الحياة ولم تنقرض إلى حد الآن، نحن الحاضر في 0.004 بالمائة من تاريخ وجود هذه الكائنات مذ الطفرات الأولى على أرض، هذا البشري واحد من 7000 كائن فقري من 100 مليون كائن حي وإذا أضفنا الكائنات المجهرية فسيصبح هذا الانسان حبة رمل من آلاف المليارات في صحراء العالم.

القلق على مصيرنا الهش بعد أن تجرّأ هذا الكائن المجهري على تغيير نمط وجودنا متذمر ونحن على عرش الارتقاء والسيطرة النوويّة والذريّة.

الأمل أنّ هذه الحضارة البشريّة لها من الأجهزة العلميّة ما لم تستطع أجهزة الرقابة والسلطة والاستغلال ابتلاعه في قوانين السوق والربح.

في أيام الحجر الصحّي والعزلة الاجتماعية والفرديّة تمر بقلقك اللاشخصي فتزدري أنفسك السطحيّة الوحيدة ولا تجد إلّا الفراغ والهشاشة والمشهد الفظيع، تطلق جماح انفعالات طفوليّة وعواطف تعتقد أنّها ستكسر وحدتك فتتفطّن أنّه ما يستيقظ في عزلتك هو كامن فيك أصلاً.

هنا الشرق.. مكان خصب يمتزج بين وحدة الصوفيّ يلاقي الروح ويرتقي للتجلّي، وهناك عتبة تتعمّد بخلوة زارادشت الحكيم حاضنا نسرك والأفعوان، وغربك خيّر العزلة لكي لا تكون وأحبّتك جزءا من مشهد جنائزيّ.. هناك الغربة تنتظر لتلتهم لحمك ومخيّلتك وتؤبدك في أسرّة الثنائيّات.

 تبدأ مصادرة الأمكنة لتصبح كلّ الأزمنة مشروعة للنهوض. تلتهم الوقت كما يلتهم “كرونوس” أبناءه تهرول من فراشك وتعلم أنّ هذا اليوم سيكون الشارع خاليا تقريبا من الأحياء، فقط هم ضحايا أنفسهم وماكينات الاقتصاد والسلطة من يمرون بين الأرصفة. يوم آخر من السكون، إلى أين الذهاب؟ ولم تحصل بعد على تصريح التنقل تهرول إلى أخبار اليوم: عدد المصابين يرتفع! قشعريرة خفيفة تحيط بحيويّتك فتتساءل عن أحوال أحبّتك وتلجأ إلى هاتفك وتبدأ روتينا من الأسئلة على حياة وتبدأ الإجابات المنتظرة. ماذا كنت تنتظر فاجعة إصابة أحدهم؟ شيطان يقفز إلى رؤوسهم ليغدق عليك سبابا لأنك قاطعت وحدتهم؟ حزمة من الكلام بهيج عن الحقيقة والأمل؟

هناك مجتمعات عجائنيّة تخمل وتتخمّر في العادة كآلات استهلاكية تعيق التعلّم والإرادة وكأنّ الدروس القديمة كافية والألواح القديمة كتبت كلّ شيء وكأنّ الإنسان القديم قال كلّ شيء. نعم لقد قالوا كلّ شيء: انّ هؤلاء العجائنيّين مخصيّون يخوضون معارك مصيرهم بلا قالب ولا مقلوب للقيم.

سقطت السماء على الأرض ليفرّق الأمل في مخابر الأدويّة التي تخفي عدوّا قيميّا آخر.

هذا الإنسان الذي يتشارك حجره مع سكان قريته العالميّة لن تطول محنته إلّا بالتماهي مع آخَرهِ.

لا يمكن أن تكونوا متدينين دون أن تكونوا متخلّقين وإن كنتم دون تخلّق فأنتم خطر حقيقي على الآدميين والبشريين.

 كما لا يمكن أن تكونوا حداثيين دون أصالة وإلّا فأنتم جبناء وأناس مؤقتون فرديون حدّ الحيوان الأخير.

نحن كمجمّعات فيروسية كبرى ما كان ممكنا أن نتكشّف على صورنا ومعرفتنا بحاضرنا دون هذه المجاهر الالكترونية والعدسات المعدنيّة للمعيشي الحثيث.وما المطرقة والجينيالوجيا الأخلاقيّة والتفكيك والأركيولوجيا إلا جزء من التفوّق الّتي مكّننا من رفع اللثام والتصنيف والتعدي والتجاوز وتكسير هذه الجسيمات ذات الخلايا الأحاديّة والمتعددة الأنماط التي أطلق عليها الرومان هذه التسمية virus، السم المنبعث من المستنقعات و المياه الراكدة أمّا العرب فنجد العافية آكلات البكتيري والجدري القاتل والطاعون الماغولي والكوليرا والتيفوييد الياباني والحمّى الإسبانية والكورونا الصينيّة.

تتعدّد الأسماء إلّا أنّ هذا الأفق السيميائي لا يقدم لنا غير ذاكرة مليئة بصور الجثث والنعوش وخوف عميق أصيل من الأوبئة ومن قصص الأهوال أمّا علوم الحاضر فها هي تقول:

– اتبعوا التعاليم وكلّ شيء سيكون على ما يرام.

-“لا أمل” إلاّ فيكم ولا نهاية للجائحة إلّا بكم.

تصدح الدولة:

– أنا هنا حاضرة لكلّ منكم على قدر الإمكان ولا يمكن للإمكان أن يكون أكثر ممّا كان.

يخاطبكم الإغريقيون القدامى:

– إنّ الخير يسلك مسلك الحقيقة.

يكرّر مهندسو الإرادات الحرّة:

– كل حكم له قيمة وكل سلوك نابع عن واجب.

يقول التاجر: جهل الناس بطريقة سير الأمور يجعلهم سجناء أحكامهم فكلّ ما أخذ سيرد.

يصافحه المصرفيّ مردفا:

– سنكون حاضرين بقوّة بعد الأزمة وسنقدّم لكم توابيت وقروضا تسد رمقكم.

يتشبّث الإمام بعنق القس والقس بشعرة قرد والقرد بغصن ليلكيّ بنفسجيّ كلون الكورونا الحديث يهمهم القرد:

هذا عود المعركة

 الأحياء والموت،

راقصة بقضيب اصطناعي

 رهبان نسي الكتاب

نعاج بشريّة تحتمي من خفّاش

أين الطاعون الأسود المهاب؟

أحفاده يلهون مع عامل زراعي

أعادوا ترتيب أعواد الكبريت

لحرق الجثث بانتظام

الأغنياء يتبرّعون بالألقاب

ودزينة من مال زهيد

والفقراء أعواد ثقاب

لم تصنعوا شيئا ليحاكمكم الله

ملجؤكم الأخير لغيريّتكم

ومعبركم لعلومكم

ترككم لجهلكم

معشر النائمين على صرح العولمة يتهافتون نتيجة خياراتهم وينقلبون على أنفسهم. هم من حاولوا نحر سيادة هذه الشعوب وهم من قّدموا للوبيّات المافيا قطاعات التربية والصحة والغذاء هم من أوكلوا للشركات العالميّة تنظيم العمل وتوزيع الثروة واليوم يجنون ما صنعت أيديهم.

 غصّت غرف الإنعاش برؤساء دول الحيلة الليبراليّة وبقيت الشعوب الحرّة تلملم طبائعها وخبراتها وعلماءها لتنفض غبار الفردانيّة المحتضرة.

 سئمت الأرض مقالع الحجارة ومضخّات النفط وحروب أهلها وبراز المصانع وأضحت لا تريد الإستماع إلى غير أناشيد سقوط المطر على أوراق أشجار الصنوبر وإيماءات الحيتان الزرقاء في المحيطات وخفقان القلوب المنشدة للأحبّة والحريّة والعدالة.

                                      أحمد الساسي ـــ طالب من تونس