full screen background image
   الأحد 8 ديسمبر 2024
ر
شعر

بورتريه… للسّرديّات الشّعريّة لدى سونيا عبد اللطيف

بقلم الشّاعر بوبكر العموري

تونس افريل 2019

من خلف ابتسامة دافئة تدعوك بمكر الأدب إلى أدب القلم أو أدب الحضور أو أيّ نوع من أنواع الأدب… لم تكتب لفراغ الوقت ولا لمليئه… شعف ما يدعو هذا العمر إلى استرداد سنوات النّزول المنزلي والمهني إلى الصّعود الحبري… تختطف الشّعر من سرديّات البسيط من الكَلَم وتُصيغ صورا وحكايا من مفردات المهمل والمدجّن…

تُعاند قول المعاني لتقول عناد المقال في سرديّات يوميّة بسيطة وفي متواليات من الأخبار والمُعاينات التي ترتسم في ذاكرتها…

هي ليست في وفاق مع الوقائع ولذا هي تعيدُها إلى بساط النصّ مليئة بالمواعظ والقيم… كأنّما أدب السّير يتجلّى وينحرف من حياة الإنسان إلى مترادفات الوعي فتصير أقصوصة السّرد تتماهى والأشياء من حولنا… وكأنّما الأدب التّسجيلي يصوغُ الوعي القارئ صياغة فوتوكتابيّة… فلا صورُ الواقع تنتفي ولا خيالُ المتلقّي ينتهي…

هي سونيا عبد اللطيف…

هي صورة أخرى لكتابة المرأة التّونسيّة معاودة لسيَر لا تنتهي لنساء لم ينتهين ولن… من إعادة صياغة الحياة التّونسيّة بذاكرتها والوطن برؤاه…

هكذا تبدأ الكتابة متأخرة في العمر… وتلوّح بها في وجه الرّواسم والكليشهات والمقولات الثّابتة…

” إنّ التّلميذ ليجازي معلّمه سوءا أن يظلّ تلميذا  ” نيتشه.

كم يجب عليّ من الحبر لأُسيل القول على هذا الفعل…؟

سونيا عبد اللطيف…

بتلك الرّوح وذلك الإصرار تبصُم وعيها متأخّرا بداء المحابر..

من السّليمانية بجمعيّة ابن عرفة إلى نادي الشّعر ومجلس الأدب والفنون باتّحاد الكتّاب التّونسيّين إلى همس الموج الادبية والفنية بميناء قليبية ومقاهيها… تقف أمام جموع القلم.. تصنع خيمات للجمع وتُعيد تشكيل غيمات المنع… أمام ذكورة الأماكن المعتّمة… تفصد بصوتها الأنثويّ المارق.. تكتب وتقول.. تقول وتكتب… تبدأ ولا تنتهي.. تُنهي لتبدأ.. من هنا كانت بجناح واحد تطير وهي عنونة مجموعتها الثّانية بعد الأولى بعنوان امرأة استثنائية والتي جاءت في سنّ اليأس الكتابي.. لا يأس للسنّ ولا للكتابة لدى سونيا عبد اللطيف… بل هي بحناح واحد وتصير.. نعم.. وصارت…

بين كلّ المواعيد يعجبني موعدُها…

سونيا عبد اللطيف  أو الكتابة… سيّان عندي.. كلّما أراها أشتمّ رائحة الحبر.. وكلّما أحبّر نصّا أراها بين الأحرف: ذلك أنّني أذكر قتالها ضدّ الزّمن وضدّ جمود المقالة…

جاءت متأخّرة ولكنّها بدأت بنضج…

يحدث للتّأخير أن يصنع معجزات ومعجزة..

سونيا عبد اللطيف…

في الهدرة الرّابعة عشرة تقول: ” أحيانا أشعر أنّي ثرثارة وأحبّ الثّرثرة.. و ” تمسّني يكثر حسّي” والهدرة تجيب وراها هدرة…”

لم نر ذلك في يوميّاتك أبدا…

هي تقول هنا ما يشبع فضول القرّاء لمتابعة النّصّ فقط.. لأنّنا نعرفك ولم نسمع من قولك إلاّ المهمّ والمفيد…

هكذا هي تصنغ ” البوز ” حول ذاتها لأجل المتلقّي، هو أسلوب ما لاستجلاب ذات أخرى في سياق الأدب التّسجيلي .. ولكنّه أسلوب مفعم بالمفارقات والقول السّخيّ المتوجَّع السّاخر ، المستنكِر لما يحدث داخل اليوميّ.. اليوميُّ الذي تمّ ترثيثه بلا مبالاة واعية وأحيانا بالخراب وغير واعية في كثير من الأحيان… في أقاصيصها ” هدرات وميتروهات ” تستوقف الشّاعرة سونيا عبد اللطيف اليوميَّ تسجّله وتحاوره بعين الرّافض وتدفعه إلى المتلقّي في استنكار ما يحدث ، فمن حوادث وأحداث داخل ميتروهات العاصمة إلى فصلها وعلاقتها بالأطفال والحيوانات إلى شارع الموظّفين الضيّق بالإدارة التّونسيّة التي تحوّلت دفعة واحدة إلى لامبالاة وسيبة فائضة على القانون والعرف..

في هذه الأقاصيص تقوم سونيا عبد اللطيف مقامَ الضّمير الجمعي الحضاري الواعي بخراب الزّمن وهدرة وخراب العلاقات وتسفيلِها وانعدام القيم وهتكها..

هدرات هي نقلُ اايوميَّ بعين المثقّف المتوجَّع الذي لا يستطيع تشكيل سلطة قيميّة ولا توجيهيّة أمام لهْوِ السّياسيّ وتخلّيه عن ضمير المواطن وإعلاء ضمير الإحن والتّلذّذ به..

سونيا عبد اللطيف بهذا المنجز النّصّي تهتمّ باليوميّ لتنجوَ به نحو الفكر اليومي حامل القيم وهي أيضا تُخرجُه عاريا للقرّاء عسى أن يفعل الحبر ما لا يفعلُه القانونُ وعصا الشّرطة..

تنهي الكاتبة أقاصيصها بما سمّته قصيد جداريّات وهي كلمات التقطتها بعدسة الكتابة من الحيطان وترتيبها لا أدري إن كان يشكّل كرونولوجي أم عن طريق الصّدفة أم بعدسة سونيا عبد اللطيف…

ولكن هي جمل في أغلبها احتجاج على انفلات اليومي والسّياسي والقيمي وفقدان الوطن…

وسونيا عبد اللطيف  ليست مستوطنة السّرد فحسب بل هي تحاول الشّعر وتستدعيه بريشة السّرد وقد تعرّفت إليها كرئيسة لنادي الشعر بجمعية ابن عرفة وقد كانت كثيرة النّشاط والحيويّة وهي تستقبل الشّعراء الضّيوف وتعدّ الأمسيات وتتحف بشذارات من فيضها حتى تكلّل جهدها وموهبتها بأولى مجموعتيها المنتمية إلى قصائد النّثر وليس شعرا نثريّا كما تتداول الأقلام النّقديّة والألسنة في المحاضرات ذلك أصل التّسمية  Poèmes  Enproses أي قصائد النّثر وهذه مسؤوليّة النّاقلين المترجمين في تدقيق المصطلح.

فقد جاء في بعض نصوصها الجمل التّالية من مجموعتها ” امرأة استثنائية ” ص 28 ” وحيدة دلفت حانة البكاء ”

ص 30 ” صدى الآهات استعذبتها ”

ص 22 ” قلبي ينشرح فأغنّي سنفونيّة الفرح ”

فالبناء الشّعري وهندسة البحث عن معلوم في المجهول يسمان جلّ قصائد المجموعة وهذا يتوقّف على عامل رئيسيّ هواللغة وتداعيات الصّورة الشّعريّة ، ولعلّ قصيد الهاجس ص 18 يتمثّل الإيحاء بالتّعبير الأدونيسي الذي اعتبر أنّ قصيد النّثر يقوم على الإيحاء أي أن تصنع للمتلقّي تلك المتاهة التي يبحث بها عن معنى لذاته وبذاته .

قصيدة الهاجس:

ناداني

لم أتبيّن من أين جاء الصّوت

ولا من يكون

ولم أعِ وقع الخُطوات

****

أمشي

ضوضاءُ..

تلاحقني

ألتفتُ

لا أرى أحدا

****

أمضي

مرّة أخرى… الصّوت يُناديني

ألتفتُ يمنة

فإذا هو يسرة

****

ألتفتُ يسرة

فإذا هو يمنة يُناديني

حتّى لقيته أمامي

رأيتُه

رآني

أمّا قصيد ” النّادلة ” فتقوم على السّرد القصصي أو القصّ بكلّ تمثّلات السّرد وآلياته فتتعدّد الأفعال منذ بداية النصّ الشّعريّ :

يرنو إليها

يبتسم            } الفقرة الأولى

يلوّح

 

يرنو       } الفقرة الثانية

يتأمّل

 

تتّخذ الأفعال هنا زمن الحاضر في صورة مشهديه سينما سيميائية ومع تعدّدها وتواترها يأتي الوصف بشكل لا يوحي بالانزياح بقدر ماهو وصف مألوف رواسِميٌّ

 

والعينان تو مضان

الفقرة الثالثة   {    وبين شفتيه كلام

وبين أصابعه فنجان

 

يتّخذ السّرد شكلا تصاعديّا غير أنّ القارئ لا ينتبه إلى التّصعيد إذ يحسّ وكأنّ النّصّ ممكن لغويّ يوميّ لا يخرج عن الجمل المتداولة المعلومة سلفا ولكن المفاجأة أو  *الصّدمة السّرديّة * تكون في المحاورة بين الحريف والنّادلة

” سكّر … جميلتي ”

” قطعة أم اثنتان؟ ”

فالعلاقة بين السّكر والجميلة علاقة غزل مخفيّ يتكرّر أمامنا في اليوميّ المعيش غير أنّ صاحبة النّصّ حوّلتها – تلك العلاقة – إلى استعارة مكثّفة لصورة توحي بحدوث أمر ما ممّا يُدخل الحيرة والارتباك والشّكّ حدّ التّساؤل داخل المتقبِّل – المتلقِّي –

وتتكثّف تلك الحيرة أكثر عندما نتملّى إجابة النّادلة التي لم تخرج عن المألوف :” قطعة أم قطعان ؟”

تقف الفقرة الأولى هنا بأمر من السّرد والسّارد وتظهر في مشهد محبّر يكسوه التّناقض بين المتغزّل واللّامباليّة .

ثمّ أنّ المحاورَة المقتضبة تُحيل إلى شيء ما قد انتهى غير أنّه مستمرّ في الإيحاء : إيحاء الأسئلة التي يثيرها النّصّ في ذهن المتلقّي .

يلتقي السّرد في النّصّ الشّعريّ بنفس مقاييس الأقصوصة حيث تقوم الأقصوصة على التّكثيف والتّفاصيل وليِّ عُنُق المتلقّي وكسْرِ انتظاراته .

وهذا نلمسه في الفقرة الأولى من قصيدة النّادلة في المقطع الثّاني أو  الفقرة الثّانية والثّالثة فتواتر الأحداث بين وصف حالة الزّبون وتعشّق النّادلة ووصف حركاتها اللّامباليّة :

” لا همس يزعجها

لا يثنيها غمز ”

إنّ وصف حالة النّادلة هنا يحدّد النّهاية الفجئيّة للقارئ حيث أنّ النّصّ الشّعريّ بأسره يقوم على هذه المفارقة بين الرّغبة الملحّة للحريف ولامبالاة النّادلة .

-الإيقاع : البطء والسّرعة في النّصّ

المقطع الرّابع : استعمال المدّ : المواااالي – واااعدهااا – إقاااامة فاااخرة – مجااااورة

المدّ في منطوق علم الصّوتيّات هو دلالة على رفق الزّمن والتّصرّف فيه بتؤدة وتملّ … وهو مدلول حرفيّ وصوتيّ يعلن عن حالة الحريف ولهفته للّقاء قالأسبوع الموالي يكون مديدا ؛ قلقا .

أمّا المقطع الخامس فهو يعكس السّرعة من خلال الأحرف وقصر المقاطع :

بلْ قبْ لَ-  ها –

اِنْ – طلَقَ – يحثّ – الخُطى

قلْ بُه  يسْ كنُه  اَللّظى –

وهو يدلّ على شدّة الرّغبة وإحالة على أنّ السّاعة أو التّوقيت الجديد لحظيّ مغايِر للتّوقيت السّابق وحالة الحريف الآن غير حالته السّابقة من حيث تسارع الزّمن لديه وبه .

المقطع الأخير : هو الانفجار وحلّ الإشكال القائم بين المتضادات المتوالية : طول الزّمن وقصره – سلوك الحريف يقابله لامبالاة النّادلة كل هذا يصنع لحظة سرديّة من الصّعب تخيّلها ، ذلك أنّ مصادفة الحدث بأسره مع المواعَدة وحدث عيد ميلاد الزّواج واستقبال الزّوج … كلّ ذلك يجعل من لامبالاة النّادلة كأنّها متعمِّدة ومخطِّطة لهكذا أقصوصة لكن بصناعة شعريّة ماهرة – فالإيقاع إيقاعان : إيقاع الرّغبة وإيقاع اللّعبة : لعبة الشّاعرة سونيا عبد اللطيف  بإسقاط القارئ في حبال متاهة قصيد النّثر المُقام على كسر انتظاراته وصنع خيالات واحتمالات لديْه .

سونيا عبد اللطيف  ننتظر منها تطوير ما بدأتْه وتغزير إنتاجها وهي لاشكّ فاعلة..