شرّفني الأستاذ عماد بن صالح رئيس جمعيّة “تازامّورت” بدعوتي إلى الاشتراك في أعمال الدورة الأولى لمؤتمر “الزيتونة في الفكر و الثقافة” الذي انعقد بين 30 نوفمبر و 2 ديسمبر سنة 2018 بين الأهل في جربة مع طائفة من الأساتذة الأجلاّء من تونس و من خارجها.
كان المؤتمر احتفاليّة حقيقيّة بالزيتون ،، تفيّأت الورقات التي قُدّمت ظلال هذه الشجرة وتناولتها من مداخل شتّى تؤكّد غَناء الرمزيّة التي تنطوي عليها الزيتونة في المخيال الجمعي فضلا عن قيمتها المادّيّة المعلومة.
فحص المحاضرون أغصان الزيتونة بمسبار المعاجم، و تناولوها من خلال الآي القرآنيّ ،، قلّبوا صفحات التاريخ مذ أيّام العصر الوسيط نُشدانا لما يصل الزيتونة بالخرافة، و نبشوا في تمثّل الزيتون الرمزي وفي حضوره الوظيفيّ، و رنت بعض الورقات إلى ما يصل الزيتونة بتراثنا الطبّيّ، وبأثرها في تيمة البحر وثقافة البحارة .. واهتمّت بعض المحاضرات بغابات الزيتون في صفاقس تروم تثمين ما تكتنزه من تراث ، فضلا عن فسحة طريفة بحثت في أثر الزيتون في الطوابع البريدية العربية..
وممّا لا يغيب عن ذاكرتي ،، حضور الفنّان الفلسطيني التشكيلي “رائد القطناني” الذي نذر فرشاته إلى قضيّة بلده بيد أنها كانت تتنفّس دوما برئة الزيتون الذي بات الملهم وانقلب منارة يهتدي بها الفنّان وهو يعالج الألوان ويقدّ عبر لوحاته أبدع الأكوان.
وكانت ورقة أ. عماد بن صالح لحظة تفتح نوافذ على المستقبل ، لأنها عُنيت بالدعوة إلى بعث متحف الزيتونة لحفظ الذاكرة و التعبير عن الهويّة، وهو اقتراح لا فقط يثمّن هذه الشجرة بل يؤكّد انغراسها في تشكيلنا النفسي والحضاري فضلا عن انغراسها في أرضنا الطيبة.
وإذ أعود إلى أعمال هذا المؤتمر اليوم ، فلأنّ القائمين على جمعيّة “تازامّورت” ( الزيتونة باللهجة البربرية) حرصوا على نشر جلّ أعمال الندوة منذ أسابيع في طبعة أنيقة صدرت عن مؤسّسة ” السانبكت” للطباعة محلاّة بصور ، وبتصميم رشيق للغلاف من إبداع الرسّام “وليد الزواري”.
ويقتضي الإنصاف التنويه إلى ما تكبّده أ. عماد بن صالح من مشقّة في تجميع المادّة و الإشراف على طبع أعمال المؤتمر و محاضراته العربية والفرنسيّة مثلما يقتضي الإلماع إلى ثراء التقديم الذي صدّر به المؤلَّفَ.
لقد نالني حقّا شرف الإسهام في هذا التأليف الجماعي صحبة أساتذتنا الأجلاء، من جامعات مختلفة، ومن حقول معرفيّة شتّى، وكان ذلك بورقة متواضعة أعددتها على عجل موسومة بعنوان : ” الزيتونة والحلم من خلال مختارات شعريّة”.
وما يبعث على الاعتزاز ، أنّ الكتاب لقي استحسان المتلقّي، وأقيمت حوله حلقات نقاشيّة كثيرة تجشّم مشقّة تأثيثها رئيس الجمعيّة سواء في العاصمة أو في بعض وسائل الإعلام وكذا في مناطق مختلفة من بلادنا . ولا أخال الجمعيّة الفتيّة إلاّ فخورة بما أفضى إليه أوّل نشاط دوليّ علمي نظّمته ، وهو مدخل مهمّ لتثمين النشاط الجمعيّاتيّ المدني الذي يضيء جوانب من مقدّرات البلد و يؤصّل البحث العلمي الذي يفيض عن الجامعات ليلامس عامّة الناس و ينصت إلى ما ترسّب في الذاكرة الجماعيّة علّه يثبّت بعض ما تقلقل زمن العولمة الذي عصف ببواسق الشجر وشارف أن يقتلع الجذور..
هذا الكتاب، الذي انضاف إلى المكتبة التونسيّة وليمة من ولائم الفكر، يجمع لذاذة الفنّ إلى المباحث الاجتماعية و يصلها بالأبعاد الأنثربولوجيّة ، و يلتفت إلى التاريخ يستلهم منه ما به تُرسمُ خرائط المستقبل.
خالد كرونة
كاتبٌ من تونس