(أنا لم أختر مسرح الشارع بل هو الذي إختارني)
بمناسبة الإحتفال بعيد ميلادي الثالث والأربعين أردت ان أحاور نفسي في بعض الأمور ولم أجد جرأة في طرح السؤال بل وجدتها في الإجابات عن تساؤلات خامرتني ولم تختمر فكانت هذه النتيجة:
منذ أكثر من ثلاثين عام وأنا امارس الفن المسرحي اي منذ اواخر الثمانينات وتدرجت بكل المراتب والأصناف والهياكل مسرح (مدرسي،نوادي،جمعياتي،جامعي وشركات) والآن اعتبر نفسي متفرغا للفن المسرحي والإبداع الفني ورغم أنني بدأت مسيرتي هاويا ومازلت وسأواصل مساري بإذن الله هاويا شغوفا كما أنني مثل زملاء المهنة أحمل بطاقة إحتراف ولي عشرون عاما وانا أستعملها إلا عند الإقتضاء … قبل أن أرتل وصيتي واسرد لكم ثورتي…..
أعترف بأنني كائن ثائر أعشق المكان وأهيم بكينونتي حين تجول أطيافها بالبيت وأسكب جام شعري وشعوري وفيضان أحاسيسي على مشاعر الساكنين فيه فأنا الذي يروم السكينة إلى منتهاها ويتوق الهدوء إلى اقصاه إلا أنني أبقى متقلب المزاج أحيانا بل متمرد و متفرد دائما …
انا الفرد المفرد أنا المنفرد المقبل على الحياة بصنوف فنونها….. فأنا لست كما رسمتني مخيلتي بل كما رسمتها واستوت رسوماتي لبنة متشظية على جدران الحقيقة …. آه منها الحقيقة…..”ما ابشع وجه الحقيقة” … (كما قالها أوديب) فأنا حين ينفجر غضبي ويرتفع صخبي… فأنا الهائج في الصمت.. انا المائج في السكات… أنا الخوار حد الجنون…آه وكم كانت صفاتي تشبه صفات الثور المجنون…. رغم تعدد إهتماماتي بكل أركان الفعل المسرحي وصنوفه وتنوع إختصاصاته إلا أنك تجدني كما وجدت نفسي في شارع ان شئت طريق فيه يافطة مكتوب عليها “نهج المسرح” …ومنها عرفت نهجي وطريقتي في الحياة الا وهو المسرح الإجتماعي…اعتبرته فنا بديلا لما فيه من نفس إحتجاجي ومسار نضالي و في الحقيقة انا لم أختر مسرح الشارع بل هو من إختارني كان في البداية إضطرارا لما إكتشفت عائلتي في سنة 1989 أنني امارس المسرح رفضت رفضا قاطعا ففكرت بأن اواصل هوايتي ولكن بأسلوب متخفي كردة فعل لما حصل ولبست قناعا وتقمصت شخصية تجمع بين فن الحكي وفن المهرج واسميتها (الحاج كلون) … الحدث الثاني الذي عمق فكرة التمرد وهي رفض استاذي لمادة المسرح (محمد الكوني) ان أمثل وأصعد على الركح حتى في التدريبات لمدة خمس سنوات فآكتفيت بالكتابة والإقتباس ومساعدته في الإخراج فتمردت عليه بطريقة غير مباشرة حيث وضعت دواء في كأس عصير لزميلي وهو بطل مسرحية “يارما” لأزيحه واصعد انا مكانه فوقع طردي من المعهد بل من جميع المعاهد العمومية… والحدث الثالث هو طردي من دار الثقافة فقمت بعرض احتجاجي لمدة ستة ساعات في مفترق الطرق امام المؤسسة …. تعاظم هذا الحقد على المؤسسات بصفة عامة وخاصة انني تحصلت على الأستاذية سنة 2003 ولكن لم اتحصل على شهادتي الا سنة 2013 يعني عشر سنوات وانا في صدام مع مكونات الدولة بنظامها ومؤسساتها…
اما الحدث الذي جعلني أقرر التخصص في مسرح الشارع هو على إثر احداث الحوض المنجمي2008 بدأت في صياغة مشروع les ils et les elles (هم وهن)(الجزر والأجنحة) وللتخفيف الزلزال وهو عبارة عن قافلة تكوينية للشباب في مجال التمثيل ( الممثل المواطن) وهذه القافلة تطوعية لمدة شهر كامل في كل ولاية لتأطيرهم (24 شهر) مع إضافة (4 اشهر) لأربعة ملتقيات اقليمية ونختمها بمعسكر وطني لمدةشهرين في الصيف …. وهذا المشروع ينتفع به 4800 شاب ….فأنا جندت نفسي للبلاد التونسية مدة ثلاث سنوات بعد المماطلة سنة 2009 قررت تقديمه لوزارة الشباب بمناسبة تونس 2010 سنة دولية للشباب آنذاك فوقع السطو على المشروع والحمد لله لم ينجزوه لأن غير مؤمنون به وايضا داهمتهم الثورة… ومنذ الثورة التونسية وانا منكب في مسرح الشارع بحثا وتدريبا وتكوينا ويشرفني انني ساهمت في تأسيس مجموعات وجمعيات وفرق ومهرجانات واعتبر نفسي من رواد مسرح الشارع في تونس….
…ومن مبدأ تطوير البحث والفعل الميداني في فنون الفرجة الحية والإرتقاء بأشكال التدريب والتكوين ونظام الورش قدمت في أواخر سنة 2019 مسرحية “وقفة احتجاجية” وهي في الأصل عرض لورشة تفاعلية قدمتها يوم 30 نوفمبر 2019 ضمن فعاليات الدورة الخامسة من مهرجان كركوك الدولي لمسرح الشارع بالعراق وهو العرض الوحيد الذي قدم خارج تونس وانا اتمنى ان يعرض في بلادي…. هذا العرض هو في الأصل احتفاء بمرور 30 سنة منذ وقع استنباط شخصية “الحاج كلون” وايضا هو صيحة لهذه الشخصية لما رأته من إستخفاف بالاوطان وبيع للأرض واستمرار للإستعمار باشكال جديدة وتفشي الخيانة والعمالة بشكل مفضوح وخاصة ظاهرة الإستكانة واللامبالاة… ففي مسرحية”وقفة احتجاجية” هنا معاناة رجل وهمي ولكنه مقعد يتمنى ان يعود للوقوف حتى يقف لتونس ولكن تونس مقعدة تبحث عن من يساعدها على الوقوف واظن ان هذه المعاناة ليست حكرا على البلاد التونسية بل كل البلدان وخاصة العربية و شخصية “الحاج كلون” يمثل المواطن من جهة والفنان من جهة ثانية فهو يحمل وجعين في قلب واحد ، يحمل همين في انسان واحد….يمكن تسميتها بكائية او مرثية للأوطان….
……في ما يخص مكانة المسرح التونسي ضمن الخارطة الدولية، الإفريقية،الإقليمية،العربية و المغاربية… أقولها وأصدح بها بالصوت العالي بلا مجاملة ولا غرور وللأمانة التاريخية …..يعتبر المسرح التونسي دائما متفرد لأنه يقوم على التجريب والبحث والتميز وفي هذا الصدد لنا كوكبة من المخرجين الطموحين والممثلين المقتدرين فأنا ارى فيهم مستقبل المسرح لأنهم فعلا مجددون وحتى بعد هذه الجائحة حتما ستطرأ عديد المتغيرات وستنقلب عديد الموازين إلا أن المسرح يبقى محافظا على بريقه وألقه لانه عرض مباشر ويعتبر “فرجة حية” هذا رغم اهمية التكنولوجيات الحديثة والوسائط الجديدة والوسائل الإفتراضية ..فالمسرح يبقى دائما ابو الفنون بل يجمع شمل كل الفنون وشتاتها ويلملم مشتقاتها… اما في ما يخص كيفية التعريف بمسرح الشارع وما الذي يجب فعله: ارى اننا قمنا بمحطات هامة وهي : *استثمار احتجاجات القصبة 1+2 *القيام بعروض اثناء المظاهرات تكوين وتدريب الشباب على الإحتجاج بالمسرح الإجتماعي (مسرح الشارع،مسرح الحوار…) *التشجيع على تأسيس مجموعات *المشاركة في تأسيس جمعيات *أهمية تواجد جمعية في رغما عني في التكوين والإرشاد منذ 2012 *زرع نواة في عديد المجموعات واهمها القطار بقفصة قصر هلال بالمنستير، طبربة بمنوبة، والكاف… تأسيس مهرجانات خاصة بمسرح الشارع مثل “مهرجان القطار” *كان لي الشرف سنة2016 ان اقترح على وزارة الشؤون الثقافية في شخص إدارة العمل الثقافي بأن يقع اضافة مسابقة لمسرح الشارع ضمن المسابقات الجهوية والإقليمية والوطنية لنوادي المسرح بدور الثقافة والشباب *بدأ تفعيل هذا المقترح منذ 2017 (يعني قمنا بثلاث دورات ) *الإنفتاح على التجارب والمشاركة الدولية من الادوات المهمة للتعريف بمسرح الشارع… *نحن الان امام حتمية تأسيس هيكل ينظم مسرح الشارع… ……ورغم وجود هذا الهيكل الذي ينظم القطاع بصفة عامة و الفعل الدرامي بصفة خاصة إلا ان مسرح الشارع يعتبر فنا صعب بل صعب جدا إلى حد القسوة وخاصة إذ نعتمد على أساسيات العرض ومقوماته بعيدا عن الفولكلور وكل ما له علاقة بالعروض التنشيطية …
انا اعتبر ان المرفق العام وخاصة شوارع الوطن هي فضاء خاص بالمواطن وليست للدولة والدولة آلية بيد المواطن وليست بيد الدولة بالتالي فإن احتفال السلطة انتهى وحان وقت سلطة الإحتفال بمعنى لانخرج لضرب البندير وقرع الطبول ونفخ المسامير وحمل اكياس “الطحين” وتوزيع “كرذونة” السميد والفارينة والتصفيق والزغردة بإنجازات السلطة بل نخرج احتفاء بنجاح المواطن في بقاء موطنه وحماية وطنه …فمسرح الشارع هنا شكل من اشكال التعبير ونوع من انواع الإحتجاج اذن علينا الآن ان نطرح السؤال “الإحتجاج هل هو اجتياح في الأمكنة ام إحتياج للمعاني” ؟ صحيح جدا مسرح الشارع في تونس غير ربحي وحتى الدولة لا تدعمه ولا تشجعه ………. وسأضرب لكم مثلا في شهر جوان من سنة 2019 نظمت دورة تأسيسية لملتقي مدينة تونس الدولي لمسرح الشارع والحكواتي بساحة العملة بصفر مليم بل دفعنا من اموالنا ومن حسن حظنا قمنا بالملتقى بالتوازي مع مهرجان قرطاج الدولي للمونودراما في دورته الثانية بإشراف الصديق إكرام عزوز…ورغم عملية احتضان هذا الملتقى ضمن فعاليات المهرجان فإن الدعم مفقود ان لم نقل معدوم …
…..فإن قلت لي ماذا قدمت لكم سلطة الإشراف؟ والادارة الراجعة لكم بالنظر؟ والتظاهرات المرجعية للفن المسرحي؟ اقول لكم لا والف لا و طبعا لا وقطعا لا ….. فهي تدعم العروض التنشيطية فقط و تدعم الافتتاحات والاختتامات وعروض المسرح في الشارع فقط…… …..وأين نصيب عروض مسرح الشارع؟؟؟؟؟. هنا وجب عليا الإشارة أن هناك فرق كبير في ماهية الأشياء بل يوجد بون شاسع في المفهوم المتداول …. وجب التفطن للإختلاف بين مسرح الشارع والمسرح في الشارع……
…….أظن اننا بعد ان نؤسس هيكلا نقابيا بصفة قانونية نستطيع الدخول في مفاوضات مع الوزارة والإدارة وكل الأطراف المتدخلة حول عديد النقاط… ……ورغم تواصل هذا الهاجس فإنني لن أتخلى عن بقية صنوف المسرح ومشتقاته (مسرح الطفل، الناشئة، العائلة، الشباب،الكهول وفنون العرائس…..)
…وبذلك تعاملت مع فرق وجمعيات عديدة وشركات كثيرة واسماء متعددة حتى لا أطيل عليكم مثلا في العشرين سنة الأخيرة انجزت اكثر من اربعين عملا محترفا تأليفاو تمثيلا واخراج ….ولعل اهم المسرحيين الذين تعاملت معهم على سبيل الذكر لا الحصر (محمد المختار الوزير،الفاضل الجزيري، محمد فرحات الجديد،جمال العروي.معز حمزة ،حمادي المزي، منجية الطبوبي،عبد الحق خمير،قيس العويديدي،ايمن النخيلي، فيصل بن محمود،سناء الأيوبي الطيب السهيلي، زهير بن تردايت،………)
…في هذا الوقت من الزمن الكوروني ورغم صعوبة الوضع وخطورة الحالة التى نحن فيها فأنا مستمتع بهذه الراحة (العطلة الإجبارية) وتعتبرها استراحة محارب لأنها أرجعتني إلى حضن العائلة وخاصة أعادتني إلي زوجتي التى ضحت و تعبت كثيرا وملت من غياباتي المتكررة عن المنزل بسب العروض والتدريبات والتنقلات والسفر والتدريس…. فالعطل المدرسية مثلا هي ليست عطلة لنا… في الحقيقة انا أعيش حالة العودة إلى المنطلقات… ….اعتبر انني احاول استثمار هذه الفترة لتعديل الأمور و ترتيب البيت وتنظيم الافكار وتبويب المراحل وتحديد المسار….وفي ظل هذا الحجر الصحي والى جانب الاهتمام بالعائلة بدأت بتجميع أشعاري القديمة والتدرب على كتابة الهايكو والتخطيط لكتابة نص مونودرامي “مذكرات الحاج كلون” او “عودة ثيسبس” قمت بإحداث قناة يوتيوب حديثة ايضا بدأت في سلسلة تكوينية بعنوان “Pause K’show ” في شكل ورشة مسرحية على صفحة دار الثقافة ابن زيدون بالعمران وايضا حصة إذاعية طريفة حول النوادر والاغاني الفكاهية بعنوان “حكايات الحاج كلون” وكانت على راديو +vision 24 … كما شاركنا ببرنامج “كبسولة كويز” ضمن فعاليات “مهرجان كونوليا” الذي تسهر على تنظيمه جمعية فني رغما عني ومجموعة من الشركاء وهو عبارة عن برنامج مسابقاتي يتناول شخصيات فنية وإبداعية……. كما انني ساهمت في ندوات علمية مع باحثين عرب على الواتساب كما قمنا بتحليل العروض ومناقشتها وكان لنا شرف تقديم عرض تونسي للمسرحي طلال ايوب بعنوان “خدامة” وإدارة الحوار افتراضيا كما وقع ترشيحي كعضو لجنة تحكيم دولية في الدورة الاولى من مهرجان بانتومايم الدولي بكركوك “المسرح الصامت أونلان” في اواخر شهر افريل كما اني بصدد انجاز سلسلة بعنوان “نوادر الحجر الصحي”
وأخيرا ..أريد من خلال هذه الفرصة ان أدعو كل المسرحيين الفاعلين وخاصة ممارسي مسرح الشارع بكامل تراب الجمهورية ان يتكاتفوا وان يجتمعوا حتى نمتن وحدتنا بهيكل يجمعنا ويدافع عن حقوقنا…