كتبت قمر غصن وهي مشاركة في الدورة السابعة من برنامج مركز التوجيه للمبادرات الإعلامية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التابع لشبكة الصحفيين الدوليين:
عندما قيل لي إنّ هناك فائضًا في المنصات الإعلامية، ومن المجازفة الدخول في منافسة معها بتأسيس منصة جديدة، لم يتملكني أي إحباط أو تردد في تنفيذ فكرتي، فالمسألة عندي لم تكن عددية إطلاقا إنما كانت تعددية، حيث الكثير من المنصات يمكن اختزالها بواحدة فقط، كونها تتشابه بالموضوعات وبأساليب التحرير والاختيارات والتخصصات، في حين، كنت على قناعة بأن هناك أمورا تشكّل كنوزا إعلامية مطمورة أو مجهولة أو عزف الإعلام عمدا عن إثارتها.
وإذا كانت الثورة التكنولوجية قد قدّمت لنا العديد من الفرص الإعلامية غير المسبوقة، من جهتي، كان ما يشغلني هو كيف استثمر هذه الفرص في مناطق تعاني من الإهمال الإعلامي ويُمارَس عليها خطابا فوقيا أو يُنظَر إليها كمادة إعلامية ترفيهية، بوقت كنتُ أجدها منجما سحريا، يكفي القليل من الحفر فيها، لنخرج منها موضوعات وأخبارا تُلهم المهتمين في السياسة والاقتصاد والتاريخ والأدب والمسرح وسائر الفنون.
زميلي زهير دبس، كان اندفاعه نحو تأسيس مشروع خاص بنا، من خلفية أخرى، وتبلورت حماسته بعد مشاركته في ورشة عمل بعنوان “ملكية وسائل الإعلام في لبنان لمن؟”، وعلى ما يقول “كان هناك ضرورة، لكسر الاحتكار الإعلامي من أيدي القلّة، فخلاصة الورشة أفضت إلى نتيجة كنت أعرفها، وهي أن معظم وسائل الإعلام في لبنان مملوكة لبضع عائلات وبيوتات سياسية وأحزاب وطوائف، وكثرة عددها لا تنتج تنوعا، إنما هي تعددية زائفة”.
وافقت مع زملائي في مشروعنا الإعلامي، أن نختار اسما لمنصتنا يعتنق التعددية ويرفض اختزال الوطن بمدينة أو منطقة معينة، فكان “مناطق نت“، وهذا ما يفتح المجال أمامنا، للتركيز على المناطق التي تم تعجيزها عن التعبير عن نفسها إعلاميا، وأقصد منطقتي البقاع والجنوب وسائر الأطراف، وهكذا بدأت تجربتنا.
الانطلاقة: نجاح كثير وصعوبات قليلة
في بداية مشوارنا الإعلامي أنا وزملائي في أكتوبر/تشرين الأول من 2017 كان شغلنا الشاغل تثبيت شخصية لمنصتنا ليسهل للقارىء التعامل معها والتنقل بين أبوابها، فكان اقتراح زميلتنا إيمان العبد أن “نعتمد عن سابق تصور وتصميم منهجية تحريرية منفتحة ومتحررة في اختيار الموضوعات ومعالجتها”، وتعلل ذلك حسب قولها “بأسباب ثلاثة، وهي نقص الكادر الميداني (كنا 4 صحافيين غير متفرغين)، والنقص في التمويل، والسبب الأخير، هو استدراج القارىء للاعتياد على الإعلام المناطقي، كل هذا يفرض علينا الانفتاح على أي موضوع مناطقي صالح للنشر ولو بفائدة إعلامية متواضعة”.
كان نجاحنا لافتا في فترة زمنية لا تتجاوز السنة ونصف السنة، ومع أننا لم نلجأ إلى أي وسيلة إعلانية واسعة الانتشار، مكتفين بصفحة فيسبوك الخاصة، اجتذبنا أعدادا بالألوف لزيارة الموقع، وحققت الموضوعات المناطقية نسبة عالية من القراء تعادل أعداد القرّاء لكبريات الصحف في لبنان، وهذا حفّز آخرين على تأسيس منصات شبيهة من حيث الموضوعات بـ”مناطق نت”.
كانت موادنا المنشورة، تغطي تنويعة من الموضوعات المناطقية، تشتمل على أكلات وزراعات خاصة بهذه المناطق، كذلك أسواقها ومنازلها القديمة ومشاريعها الاستثمارية وشخصياتها بالإضافة إلى استرجاع أحداث جرت فيها، ومحاولة تأريخ استيرادها للأفكار الجديدة واستعراض نتاجاتها الأدبية والفنية ومشاركاتها في الاستحقاقات الوطنية، وصولا إلى طرح قضاياها الإنمائية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية.
لم يزرع النجاح الذي حققناه في انطلاقتنا نزعة الغرور أو غمرنا بحس الاكتفاء وبالتالي الاسترخاء، فكان زميلنا زهير دبس يردد “أن حلم «مناطق نت» يفوق قدرة المؤمنين بها. الموضوعات التي نشرناها على تنوعها وغناها وحصدت عشرات آلاف القراء لم تشكل جسر عبور إلى ذلك الحلم. الجهود الجبارة سواء من حيث الوقت المجاني أو من حيث الإمكانات المتواضعة التي نقتطعها من رواتبنا الخاصة لم تستطع تحقيق ما نصبو إليه، وهو الديمومة في العمل وانتظامه في مؤسسة لها شروطها ومتطلباتها”.
كنا نحرص على تناول هذه الموضوعات في قالب تحريري مختلف عن المعهود والدارج، الخاص فيها يستثير العام، والعام منها يحرّك الخاص، ونرويها على أنها حكاية دون تغييب الظروف المحيطة بها، وكل هذا، كان يساهم في إعادة تشكيل وعي أبناء المناطق لمناطقهم، بمدنهم وأحيائهم وقراهم وأسواقهم وحقولهم، ودفْع هذا الوعي الجديد للتمدد نحو السياسة والثقافة والاقتصاد والاجتماع.
لامركزية الإعلام.. حاجة وطنية
طبعا، كنا أنا وزملائي ندرك الأبعاد الكبيرة لما نقوم به، فتناول اي موضوع من زاوية أو منظار مناطقي قد يصطدم أحيانا بطرح المركز المنحاز لمنطقة معينة أو أكثر على حساب مناطق أخرى، وكان زميلنا خالد صالح يقول: “هذا الاصطدام بنظرنا حميدا ومطلوبا في بلد مثل لبنان تخلفت مرارا حكوماته عن تعهدها بتحقيق الإنماء المتوازن بين المناطق، أضف أن إسهامنا في إعادة تشكيل المناطق لشخصيتها الذاتية يحفّز على إعادة بناء وطنية جامعة تسود العدالة بين مكوناتها وتحترم تعدديتها”.
يجوز السؤال، ما إذا كانت موضوعات “مناطق نت”، تؤذي “الوطنية اللبنانية”، لكن أقول، نحن ننطلق من وجهة معاكسة، وهذا ما تشرحه زميلتنا ميرنا دلول بقولها “إذ نعتبر هذه “الوطنية” باتت عاجزة عن جمع اللبنانيين حيال العديد من القضايا المصيرية، وقد تفككت بفعل انقسامات طائفية ومذهبية استبدلت الدولة الواحدة بكيانات ما تحت الدولة متباينة في تطبيق القانون وتفسيره. ويسهم انعدام التوازن المناطقي في تغذية هذه الانقسامات وتعميقها، فنحن نعمل على مقولة غابرييل غارسيا ماركيز، فإذا كان تقدم الجيوش رهن بأبطأ قطعاته، كذلك تقدم الأوطان رهن بأضعف مناطقه”.
لم يكن مشواري في تجربة “مناطق نت” بكامله ذهبيا، فبقدر ما كنت استكشف فيه من فرص رائعة وخبايا توقظ الخيال وتستفزني للكتابة، كنت ألاقي مع زملائي الكثير من الصعوبات والمعوقات، ما زلنا نبحث ونجتهد في إيجاد الوسائل المناسبة لتلافيها أو تجاوزها، وبالشعور ذاته يعبّر زميلي علي سلمان عنه في ما قاله “بالرغم من أنني عملت في عدد من وسائل الإعلام، إلا أن تجربتي في «مناطق نت» كانت محورية في مسيرتي المهنية. فقد أتاحت لي المنصة فرصة غير عادية لإثبات نفسي كصحافي، سواء من خلال أسلوب التحرير أو من خلال بناء الموضوع. وقد شكلت تلك التجربة قيمة مضافة أساسية في عملي الصحافي. وبالرغم من أنني الآن أعمل في أكثر من موقع إعلامي إلا أن العمل في «مناطق نت» له وقعه المختلف وطريقته المميزة”.
أفكار على الطريق
ليس سهلا تناول الموضوعات المناطقية، فالجزء الأكبر منها لا ينفتح بسهولة نحو الإعلام كما أن الإعلام الوطني لا يجد متسعا في الوقت أو في المكان لتناولها، كما أن البعض من الموضوعات المناطقية، خصوصا المسائل الاجتماعية،قد يلامس حساسيات وغرائز يعرض كاتبها للخطر والإيذاء، وبعضها الآخر يمكن التحايل أو الالتفاف على حساسياته باللغة والصياغة، وكذلك هناك تحقيقات تحتاج إلى أوقات طويلة لإنجازها والتنقل بين القرى، وهذا يفترض تفرغا كاملا ورصد موازنات مالية غير متوافرة، إضافة إلى الوقوع على موضوعات لم يتم التطرق لها في الإعلام، ولا يستطيع القيام بها إلا طاقم مكتمل مجهز بعتاد إعلامي مناسب.
كأي مشروع إعلامي، لا تسير الأمور دائما في خط تصاعدي أو مستقيم، وهذا ما يحدث معنا في “مناطق نت”، هناك هبوط وصعود، والحماسة قد تفتر وتتراجع حينا لأسباب نحاول معالجتها، لكن ما أود التأكيد عليه، هي أنها لن تغيب أبدا، فهناك الكثير من الأفكار يعزّ علينا أن تموت حبيسة في المخيلات والأذهان، فحياتها بالنشر والقراءة..
شاركت غصن بمشروع “مناطق نت” في مركز التوجيه التابع لشبكة الصحفيين الدوليين، بعدما تمّ اختياره إلى جانب 7 شركات إعلامية ناشئة من بين 200 مشروع آخر .
الصورة لفريق مناطق على زووم