بقلم:
الأستاذة عفاف العباسي
مدربة معتمدة في البرمجة اللغوية العصبية/باحثة
في ظل تسارع وتيرة العمل وتنامي الضغوطات المهنية، أصبح الاحتراق المهني واحدًا من أخطر الظواهر النفسية واجتماعية التي تمس اليوم جميع القطاعات دون استثناء. نحن لا نتحدث هنا عن تعب عابر أو إرهاق وقتي، بل عن حالة مركبة من الانهيار العاطفي، والتعب المزمن، والانفصال النفسي عن العمل، وهي حالة يعاني منها ملايين الموظفين حول العالم دون أن يجرؤوا أحيانًا على البوح بها.
الاحتراق المهني، الذي صنفته منظمة الصحة العالمية كمتلازمة ناتجة عن ضغوط العمل المزمنة، يمثل اليوم تهديدًا صامتًا لقدرة الفرد على الأداء، والتكيف، بل حتى على الاستمرار في حياته المهنية والإنسانية. بصفتي باحثة مهتمة بمجال الصحة النفسية في بيئات العمل، أعمل حاليًا على دراسة ميدانية معمقة تهدف إلى رصد وتحليل مظاهر الاحتراق المهني في المجتمع التونسي، عبر مقاربة متعددة تشمل الجنس، الفئة العمرية، والمستوى المهني.
تشمل هذه الدراسة موظفين من قطاعات مختلفة: عمومي، خاص، تربوي، صحي، إداري وتقني، وتهدف إلى إنتاج قاعدة بيانات علمية تُساعد في فهم جذور الظاهرة واقتراح حلول ملموسة وقابلة للتنفيذ.
سيتم الاعتماد على استبيانات دقيقة ومقابلات شبه موجهة لجمع معطيات كمية ونوعية تسمح بإبراز الفوارق في مستويات الاحتراق حسب الفئة تشير المعاينات الأولية إلى تزايد مقلق في نسب الإرهاق النفسي والانسلاخ المهني، خصوصًا لدى الفئات الشابة والنساء العاملات في مناخات تتسم بانعدام التقدير، ضعف التواصل، غموض الأهداف، وغياب الدعم القيادي.
ويتجلى الاحتراق في أعراض متعددة: اضطرابات النوم، فقدان الحافز، ضعف التركيز، سرعة الغضب، وتراجع الأداء. وهو لا يؤثر فقط على الفرد بل على مردودية المؤسسة واستقرارها الاجتماعي.
الدراسة، التي ما زالت في مراحلها الأولية، ستنشر نتائجها الكمية في الأشهر القادمة، وستتضمن تحليلات مقارنة بين مستويات الاحتراق عبر الفئات والقطاعات، مع مقترحات تدخل على المستوى التنظيمي والإداري والنفسي.
نأمل أن تُسهم هذه الأبحاث في تغيير السياسات الداخلية للمؤسسات، وأن تُفتح نقاشات جدية حول نماذج القيادة، آليات التقييم، وأهمية بناء ثقافة مهنية قائمة على الاحترام، التقدير، والتوازن بين الحياة الشخصية والمهنية.