اختار كثير من الكتّاب السعوديّين تسليط الضوء على الحياة الثقافيّة والاجتماعيّة في مجتمعهم مثلما اختار آخرون خطًّا مغايرًا يُعنى بالهمّ الجماعيّ الإنسانيّ، وهو في رأيي ما يجعل الأدب كونيًّا متجرّدًا من الذاتيّ منفتحًا على كلّ الاختلافات والاحتمالات.
يقول ستيفان زفايغ: “في الشطرنج كما في الحبّ، نحتاج بالضرورة إلى شريك.”
أمّا الكاتب السعوديّ معجب الشمري فقد تساءل في كتابه الموسوم بـ”اُص… مُت”
– “إذا تورّط المرء بوحدته من يتبنّاه؟ !”
وأنا أتصفح الكتاب اصطدمت بأسئلة ماكرة، مخاتلة، ومحرِجة، يحاكم من خلالها الكاتب ذاتَه والآخرَ ويعيد النظر في ما خلناه من الثوابت، فبدت بعض النصوص نتاج رحلة تأمّل عميقة في الكون وفي الوجود أو عصارةُ حفنةٍ من التجارب اختار الكاتب أن يوزّعها علينا وكلّه أمل أن نُعاود النظر إلى الأشياء من زاوية اُخرى. وعلى امتداد صفحات الكتاب لاحظت تأرجح النبرة بين الارتفاع إلى حدّ الصراخ والخفوت إلى حدّ الإيحاء بالخرس، فهي مرّةً نبرة الزاهد الحكيم الخبير بالحياة ومطبّاتها، وثانيةً نبرة جنديّ عائدٍ من حرب خاسرة، وثالثةً نبرةُ شيخ يكتب وصيّةً ليتخلّص من مسؤوليّة ملقاة على عاتقه.
وبمزيج النبرات تلك قدّم معجب الشمّريّ إجابات صغيرة عن أسئلة كبيرة، مُتعمّدًا أن يظلّ السؤال هو البطل؛
أيّها القارئ.. ماذا لو ابتلعك سؤال؟!
قد يوحي العنوان “أص.. مت” بدعوةٍ ملحّة إلى الصمت لكنّه في واقع الأمر صرخة مدوّية تخفّف بها الكاتب من ركام انفعالاته وأتعابه، ولعلّها صرخة المولود بعد شهقته الأولى وما أشبه النصّ به وهو المُورّط مثله في الثنائيّات: الصمت والكلام، العقل والعاطفة، الجرأة والتحفّظ، الوجع والسعادة.
وقد يكون حرص الشمّري على المُضيّ بالتعبير عن الحالة الشعوريّة إلى أقصى مدى ممكن هو ما طعّم كثيرًا من جُمله بمذاق الشعر كقوله في أحد المواضع:
” من يستر فضيحة الهواء حين يختنق ؟ ”
لكنّه لا يلبث أن يعود الى لعبة الأسئلة الكبيرة فيقول في فصل “الرسائل الاخيرة” مثلًا:
“كيف يمكن للجريمة أن تحقق العدالة؟!”
” كم عامًا جريمةُ الذين اغتصبو النوايا؟ ”
ومن وجوه طرافة الكتاب وفرادته أنّ كاتبه لم يبحث عن الكمال والمطلق، لاقتناعه بأنّ ذلك موكل إلى الأنبياء، لكنّه أيضًا أبى أن يُشبه الجميع، فأتت نصوصه مُحرّضةً على التحرّر من الأفكار القديمة والثوابت، كأنّها تدعونا إلى أن نُمرّغها في الأوحال ثم نحيا ونحن نتساءل: من أين تسرّب كل هذا الحبّ؟!..
والخيط الناظم لكلّ نصوص كتاب “اُص … مُت” هو أنها إعادة قراءة للوجود وللمفاهيم، يطرح فيها الكاتب سؤالًا ويمضي تاركًا إيّانا مورّطين في استفهامات بلا إجابات نهائية ودقيقة، تُحدّث عن الوجوديّ المشنوق بين عقله وعاطفته وبين وهمه وواقعه وِنَفَسِ “ألفريد دي موسسي” المعروف بقولته الشهيرة “لا يجعلنا عظماء غير ألم عظيم ”
وبنفس ثوريّ حاكم الكاتب الصمت مرّات عديدة لأنه بوابة للموت لكنه مجّد الألم الآتي من الوعي والفطنة والسؤال! وكذا الكاتب الحقيقي يتعرّض إلى أزمات روحيّة بالغة الخطورة من جراء بحثه المستميت عن الحقيقة. لذلك دعا معجب الشمري الى رسكلة جميع الرؤى وتعديلها وربما أغلب الذين لهم القدرة على منح السعادة للآخرين يعانون من انقباضات داخلية مروعة لكن السعادات تبقى ذاتية ومحدودة لأنّها محكومة بالزوال. وقد يكون زوالها هو الذي يسمها بكلّ تلك الأهميّة فكلما كبرت أسئلتك كلما زادت فرصة تلاشى سعادتك، لكن السعادة ليست ساذجة والفرح عميق هو الآخر، ومن الضروريّ أن نتقرّى البهجة حيثما وُجدت ونسعى إلى اجتراح الوردة ولو من قلب الحجر فالتفكير بصوت مرتفع يمنح الكثير من الخفّة و الانتعاش كقطرات المطر الأولى بعد صيف قائظ..
سميحة المسعودي