بقلم الكاتب عمار التيمومي #تونس
الكبّارة :
(عين المُغطّى: الإشراف على الهلاك سَغَبًا وسُعارًا)
… كان الزّمن صيفا وقد تربّع أوسّو على عرش بالأجبل وطال نهار النّاس وتمطّط حتى كاد يمسح ثلثي اليوم وباتت الظّلمة خجولا يُشتهى قدومها وقد أنارها بدرٌ مكتمل لكنّها سريعًا ما تسحب عنه خمارها الأسود وتتركه لمصيره وحده في مواجهة شمس شرسة تنطلق منها أشعّةٌ لامعةً كالسّيوف النّاحرة تغزو كلّ ما على وجه الأرض تسحب مياه اليناعة من كلّ المخلوقات فتمسي كالحةً ويشيب العشبُ والنّبتُ وتصفارّ أوراق الشّجر كالمحتضرة..
كان الوقت رمضان والنّاس صيام غالب يومهم يجتهدون في مواجهة عطش طويلٍ وجوع يطوي بُطونهم فتبهتُ ملامحهم ويتضاءل تركيزهم ..تراهم بالأماسي يسيرون متلاطمين وكأنّ برؤوسهم خدرًا وبأطرافهم عللاً ويطول انتظارهم آذان صلاة المغرب موعد السّماح بشربة أتعبتهم غِوايتها ولُقمة عذّبهم انتظارها وقرمُ بُريكة برّحت رائحتها بأفئدتهم حتى كادوا يعشقونها.. فترى الأجسام طريحةً وكأنّ العظام بها قد انفصلت والعضلات قد فُتّت فترثي العينُ النّاظرة لحال المُتهالكين..
يُبكر الصّائمون ليحصدوا خَرجَةً أو خرجتَيْن (مرجعًا أو مرجعين) قبل أن تطلّ بنت السّماء الحارقة لتثقل حركتهم ويتصبّب عرقهم فيتّخذوا أغطية رؤوسهم ممسحات له.. ويتعسّر ربط السّنابل أغمارا أغمارا إذ يبُست سُوقها وأضحت تتكسّر كلّما حاولتَ ليّها لربط الغمر.. تظلّ القامات ساجدة لنعم اللّه تحصدها ولا تكفّ أفواه الظّرفاء عن رواية النّوادر وذكر الأخبار وطرح الأحجيات للتّباري ومعاندة التّعب والأُوار وتثاقل الزّمن…
أمّا الصّبيّ فنصيبه من العمل يتمثّل في رعي الشّويهات بالحصائد ولزامٌ عليه أن يُبكر فمتى حلّ الضّحى كفّت النّعاج عن الحركة داسّةً رؤوسها عند بطون بعضها بعضا اتّقاءً للحرّ أمّا صغارها الحملان فتنام عند ظلّ أمّهاتها قريرة وإن هي ظمأت قامت إلى الضّروع تنطحها مستدرّة حليبا ترضعه..
يأوي الصّبيّ بالقطيع إلى حظيرته ثمّ ينطلق بشبكته الجيّابة على حمار ينقل محصول الحصاد إلى بيدر يتولّى أحد الكبار تنظيمه في كومة نادر يسرّ النّاظرين ومع شغله المتواصل عند عين الشّمس يظلّ متمسّكًا بتقليد الكبار في صومهم.
وحال عودته من مهمّته الشّاقة وخصومته مع السّفا والقشّ والشّوكات العالقة بالأغمار والحلل وتجنّبه العقارب الآوية إلى أكداس السّنابل بتحوّطه بالمنجل ومقارعته وقوع الشّبكة الملأى أغمارا من ظهر الدّابة فيصارع لإيقافها في هيئة تمثال ويتوسّل الحمار حتى يقف إلى جانب الشّبكة ويستجمع كلّ قواه ليُميلها على ظهره دفعة واحدة مع الحرص على ألا تمرّ إلى الوقوع من الجهة المقابلة،يمضي إلى قصعة الماء البارد ليغسل أطرافه فيهيج غليله أكثر فأكثر..
هو لن يمضي كالكبار إلي البيوت الظّليلة وقد رشّت بماء يخفّف من حرارة الهواء فيها ولن يهجع جسده في قيلولة ينعم فيها بالرّاحة والغطيط. بل عليه أن يرد بئر العبقّات على حمار يحمل زنبيلاً تستقرّ به جرّتان يملؤهما ليطفئا لهب يوم طويل استبدّ بالصّائمين..
امتطى الصّبيّ صهوة دابّته وحثّها بقدميه فرقلت تقصد البئر صرّة الحياة بالصّيف .. وماإن بلغ غار الطّين حتى لحق به رشيد بن ستيتة على أتانه يقصد البئر فترافقا ودار بينهما حديث مكر الصّبيان بلغا البئر وانتظر دوريهما عند المورد ومُلئت الجرار ..في طريق العودة اقترح رشيد على الصّبيّ أن يزورا عين المغطّى وقد اعتمد كلّ أساليبه في الإغراء والغواية .. وقع الصّبيّ في أحابيل التّشويق وقرّ عزمه على الاسترشاد برشيد هذا بعد وضع الجرار موضعها وشدّ وثاق الحمار إلى جذع كرمة التّين الشّوكي الظّليلة وملء معلفه تبنًا.
التقى الصّبيّان عند النّفيضة وصعدا تلّ السّيوف عاديين وقد أنسى شوق الاكتشاف صبيّنا هُيَامه .. وها رشيد لا يكفّ عن حديثه المؤنس حتى طالعه “سردوك” وهو ثمرة الهندي الهجينة وقد التصقت بنصف ورقة التّين فتعظم الثّمرة وتظلّ ريّانة.. قطفها رشيد واحتال بحرفية على شوكها وقشرها فبدت مزيجا بين حُمرة مُغرية وصُفرة عليها حُبيبات سكّرية والتهمها على مرحلتين وصاحبنا الصّائم لا يجد ريقًا ليمتصّه..
عبرا الجواء ليصلا إلى أولى صفحات الجبل ومنها إلى ثانية وثالثة فيسأل الصّبي وريقه صابون عن عين المغطى ورشيد لا يراها إلاّ قريبة.. وصلت أقدامهما المائعة في أخفاف بلاسطيكية إلى الكاف الأبيض فرأيا بقمّته نبتًا فإذا هو “المثنان” تصلح لفافته لتكوّن مكنسة فأصرّ الصبيّ على قلع ثلاث من أكبرها يهديها لأمّه، وذاك بحيلة إمساكها بقبضتي إصرار ثمّ الشروع في الدوران بها وليّها حتى تُقلع .. حمل الصّبيّ نبتاته وتبع رشيدا حتى تجاوزا خنقة الضّبع فلاحت لهما ذات انعطافة الرقّوبة الحمراء وحولها يقطن الأمّاغير بعيدا أو قريبا وإليها ينتسبون.. والصّبيّ المتعب يقع تحت مرمى سياط الشّمس وقد توسّطت قبّة السّماء وأخضعت كلّ الخليقة لأذاها وجورها..كانت عينا الصّبي تمرّ بهما ظلال الإرهاق وهو لا ينفكّ يسأل عن العين المبتغى ورشيد الماكر يسوّف حتى كثرت بالسّفوح نبتات الحلفاء وشبيهاتها من الرّمث والسيبوس ونحوه وقد شابت منها الذّوائب والأطراف .. ولاح كاف النّمر وفي السّقطة الموالية من السّفح عين المغطّى ..تهالك الصّبيّ على مرداة عظيمة ونبتات المكنسة على ركبتيه ومضى رشيد يحتال بالحلفاء يبرمها إلى أن حصل منها على حبل طويل ربط به إحدى العلب المهملة وقد علاها الصّدأ يرد بها ماءً يشربه ويدلق منه على رأسه وأثوابه القليلة ويعرض على رفيقه التخلّص من بعض الحرّ بغسل الأطراف بعد أن فقد الأمل في أن يجعله يفطر معه.. شعر الصّبيّ بقشعريرة قارسة وقد اشتدّ القيظ …
هو لا يعرف حتى السّاعة كيف عادت به ساقان تائهتان وعينان طارفتان إلى البيت بعد كلّ هذه المشقّة.. بل لعلّ أمل النّهل من تلك الجرار الرّيّانة.. وكلّما اشتدّ السّغب والسّعار ازدهر الأمل في الشّرب والشّبع المخلصان من المهلكة…