full screen background image
   السبت 23 نوفمبر 2024
ر

الفلسفة الغانديّة في مقاومة جائحة كورونا

بقلم سعادة سفير الهند بتونس، السيد بونيت روي كوندال

 

“الثروة الحقيقيّة هي الصحّة وليست قطع الذهب والفضّة”

نحتفل في الثاني من أكتوبر 2020  بمرور 151 عاماً على ميلاد المهاتما غاندي، في وقت نعيش فيه فترات عصيبة نشهد فيها نضالا مستمرّا للحياة ضدّ فيروس كورونا. وسأحاول في هذا المقال تناول القضايا الصحية التي نواجهها اليوم من منظور الغانديّة وأهمية فلسفته في الحياة في زمن الكوفيد.

نحن اليوم في زمن غالبا ما نكون فيه على استعداد  للتضحية بصحتنا من أجل الحفاظ على الصدارة في “سباق الجرذان” الذي نعيشه ولتحقيق مكاسب مادية وتكوين أرصدة بنكيّة على حساب صحتنا. لقد أدرك المهاتما غاندي هذه المعضلة وكان يؤمن بأنّ الصحة البدنية والعقلية الجيدة تشكل أهمية قصوى لأي إنسان. كان يؤمن بالتوازن بين الحياة الشخصيّة والعمل وفاء منه لمقولة “حياتي هي رسالتي”؛ وكانت ممارسة المشي خلال الصباح/المساء، واتباع نظام غذائي متوازن إلى جانب الصلاة، والصوم والتأمل جزءاً من عاداته اليوميّة. وفي هذه الأوقات التي نشهد فيها تفشّي وباء كورونا، نتذكر أيضاً تأكيده على النظافة والصحة. كان يقول: ” إنّ الجسد  غير الطاهر لن ينال البركة الإلاهيّة مَثُله في ذلك مثل العقل غير الطاهر”، وبشكل عمليّ أكثر، كان يقول: “لا ينبغي لأحد أن يبصق أو ينظف أنفه في الشارع. ففي بعض الحالات، يكون البصاق ضارًا للغاية إلى حد يصبح فيه حاملا للجراثيم وسببا لإصابة الآخرين بها”. كانت هذه الأفكار البسيطة للمهاتما غاندي مصدر إلهام لحملة “الهند النظيفة” التي أطلقتها الحكومة بقيادة رئيس الوزراء مودي، لجعل الهند نظيفة وجميلة المناظر وللحد من أعباء المرض على الاقتصاد.

وبوصفه من أنصار الاعتدال وتجنب الإفراط في تناول الطعام، قال المهاتما غاندي: “ليس المقصود من الجسد قط أن يعامل كسلة نفايات، وأن يحتوي كل الأطعمة التي تشتهيها النفس”. ولقد جرّب أنظمة غذائية متنوعة، بما في ذلك النظام الغذائي النباتي لمدة ستّ سنوات، قائلاً “إنّه لا ينبغي للناس أن يعيشوا من أجل تناول الطعام والشراب وكي يكونوا سعداء، بل لابد وأن يأكلوا ويشربوا ليجعلوا من الأجساد معابد الله ويسخّروها لخدمة الإنسان”. لقد جرب الأطعمة التي أكسبته القوّة وتخلّى عن تلك التي تجعله ضعيفاً، فأوصله ذلك إلى اتباع نظام غذاء نباتي، وإلى التحكّم في حصص الطعام، وتناول الخضر الورقيّة وتجنب التوابل كحلّ لهذه المسألة. ويستدعي ذلك في الفكر الطبي الحديث اعتماد نظام غذائي متوازن بحصص مناسبة، وتناول الفاكهة والخضر الطازجة والموسمية، وتجنب الأطعمة والحلويات المصنّعة والمقلية والحارة. كما كان يعتقد أنّ الصوم وسيلة لإزالة السموم من الجسم، واستهلاك الترسبات الدهنيّة، وتطهير المعدة وإزالة السموم للحماية من الأمراض.

كما كتب المهاتما غاندي كتاباً بعنوان “مفتاح الصحة”، واعتبر فيه أنّ الشخص السليم  هو الشخص الذي يكون جسمه خاليا من الأمراض ويستطيع أن يمارس أنشطته الطبيعية من دون أيّ إجهاد. وكان المهاتما غاندي يؤمن بقوة التأمل كوسيلة لتحقيق الصحة العقلية. وهو يقول في مقولته الشهيرة: “لديّ الكثير لإنجازه اليوم حتّى أنّني لابد أن أتأمل لمدة ساعتين بدلاً من ساعة واحدة”. وقد أثبت العلم أن التأمل يقلل من الإجهاد، ويقلل من ضغط الدم ويساعد في تجاوز اضطرابات القلق. كما دعا المهاتما غاندي إلى الامتناع التام عن استهلاك التبغ أو الكحول، وهي أمور غنيّة عن الشرح ولا تحتاج إلى توضيح. فلقد خضعت التأثيرات السيئة للكحول والتبغ على جسم الإنسان للبحث والتوثيق المعمّقين.

كان المهاتما غاندي شخصاً رحيماً بطبيعته. فلقد حفلت حياته بالحالات التي قدم فيها الرعاية الطبية للناس. وعندما كان في جنوب إفريقيا، فإن مساهماته أثناء حرب البوير كجزء من فيلق الإسعاف الهندي (1899)، وفي تمرد الزولو كجزء من فيلق حاملي النقالات الهنود (1906)، ودوره خلال وباء الطاعون ورعاية مرضى الجذام معروف جيدا. وكان هو الذي دقّ ناقوس الخطر في جوهانسبرغ (1904) بشأن الظروف غير الصحية التي تعيشها الجالية الهنديّة بسبب إهمال السلطات المدنية. وفي وقت لاحق أثناء وباء الأنفلونزا الإسبانية (1918)، فتح المهاتما غاندي أبواب إقامة سابارماتى آشرام ليجعله مركزاً للعزل الصحي مقدّما العلاج والخدمات للمرضى، ممكّنا إيّاهم من نظام غذائي نباتي صحيّ لتعزيز مناعتهم مع حرصه على الحفاظ على التباعد الجسدي. كما تولى هو وزوجته كاستوربا رعاية أسر المرضى.

كان المهاتما غاندي يقول: “فيما يتعلق بتحسين صحة المرء، فإن الخمول خطيئة”. وهو أمر يمثل مصدراً لإلهامنا حتّى نحافظ على صحة جيدة من خلال ممارسة التمارين الرياضية بانتظام، والنوم في الوقت المناسب، وتعزيز المناعة من خلال اتباع نظام غذائي صحي، وهو أفضل وسيلة للدفاع ضد كوفيد. كما أن هذه الجائحة قد أظهرت الحاجة إلى أن نكون محترمين لأولئك الذين يعانون من الأمراض. وقد قال: “إنّ الأمر الذي كان يحيّرني دوماً هو مدى قدرة الناس على احترام أنفسهم عندما يقدمون على إهانة الآخرين”. وكان يدرك أن كل الأمور مهمّة مهما كان صغر حجمها. وهو يقول : “كلّ ما ستفعله في الحياة سيكون غير مهم، ولكن من المهم جداً أن تقوم به إذ لن يقوم به أحد غيرك”. وتعلمنا هذه المقولة مفهوم المسؤولية الاجتماعية والحاجة إلى اتخاذ موقف متعاطف إزاء المرضى، ذلك أنّ المرض يمكن أن يصيب أيّ شخص.

لقد تمّت تجربة فضائل الفلسفة الغانديّة عبر الزمن وهي ذات صلة بالأعباء الثلاثة التي يعيشها العالم اليوم من مرض الكوفيد، والأمراض المعدية وغير المعدية الحالية، وسوء التغذية والفقر. إنّ فلسفته هذه تدعونا إلى إحداث تغيير. على أنّ هناك دائماً خوفا من التغيير لأنه يعني الخروج من منطقة الراحة الخاصة بنا، وبناء عادات جديدة، والتخلي عن الأنماط المعتادة. ولكن التأمل في فلسفته الأساسية من الممكن أن يوفر الإلهام المطلوب منا لاتخاذ الخطوة الأولى نحو حياة صحية.