full screen background image
   السبت 23 نوفمبر 2024
ر
خالد كرونة ـــ كاتب من تونس-التيماء

برميل الرئاسيّة ومصباح “ديوجين”!… بقلم خالد كرونة

تشاء الأقدار أن ألتقي منذ أيّام صديقا عتيقا، ومناضلا فذّا،هو الأستاذ (ر.س)، جامعيّ من أبناء القيروان الأصلاء،ممّن لا تستهويهم الجعجعات،ولا تغريهم العدسات. لكم أن تعدّوه من مناضلي « الظل » قياسا على « حكومات الظل » أو  مضارعة لــ « عصابات الظلّ و الذّلّ » .. وتشاء الأقدار أيضا أن يكون موضع اللقاء مقهى جنوبيّ العاصمة يحمل يافطة ضخمة تهاويلُ حروفِها المذهّبةُ عبارة « القصر الكبير » ..

يا لسخريّة اللغة !

في مقهى « القصر الكبير » كان لنا حديث قصير حول القصر الكبير.. دردشة محمودة اشترك فيها صديقان عزيزان آخران ،من أفذاذ الرجال ،يحمل كلّ منهما اسم « محمود » .. ولست أذكر ما الذي دعا صديقي إلى استعادة سيرة  « ديوجين »  المحمودة ،سوى قوله المشهور : « أبحث عن رجل » ! وفيم العجب؟ ألسنا في أيّام بحث القصر الكبير عن رجل..أو ربّما في أيّام بحث رجل (ما) عن القصر الكبير؟

لا داعي أن يغضب حماة النسويّة وفقهاء التحاليل الجندريّة، فديوجين قد قضى منذ ما يزيد عن ثلاث و عشرين قرنا، (الأرجح أنه عاش في ال ق3 قبل الميلاد) ولكنّ سيرته باتت ملهمة شأن الأساطير الإغريقيّة القديمة.. فقد زعموا أنّ هذا اليونانيّ رأسُ إحدى ثلاث مدارس متفرّعة عن « السقراطيّة » وهي الأبيقوريّة (نسبة إلى أبيقور) و الرُّواقيّة ( مؤسّسها زيتون السيشومي ) و المدرسة الكلبيّة التي كان ديوجين رائدَها .

ومبدأ « الكلبيين » الأساسيّ هو نشدانُ « الفضيلة » ولكنّهم يعتبرون أنّها لا توجد إلاّ خارج القانون والأعراف و التقاليد و لا يرون تحقّق « السعادة » إلاّ بازدراء الترف و مظاهر الثراء وبالعيش وفق ناموس الطبيعة .

وزعموا أنّ « ديوجين » قضى حياته يرتدي عباءة خشنة و يحمل عصا ولا تفارقه محفظةٌ !   أمّا « قصره الكبير » فكان « برميلا » خشبيّا ! أنفق « ديوجين » أيّامه يسكن برميله الضخم ، وزهد في لقاء الملوك والنبلاء ..وزعموا أنّ خبره بلغ « الإسكندر المقدوني » فجاءه إلى برميله ساعة استحمامه بالشمس ، وسأله إن كان يحتاج شيئا فقال : « ابتعد، إنّك تحجبُ عنّي ضوء الشمس » !

أمّا الآن، فقد استوطن « ديوجين » أرضنا، وما يزال حتّى اليوم لا يفارق برميله الغليظ الأخشب،   وما زال قوله المشهور ساعة أسرَهُ قطّاع طرق و قادوه ليُباع عبدا في سوق النخاسة مجلجلا :  « بيعوني لمن يريد سيّدا له » ! وما برح « ديوجين التونسيّ » يجوب الطرقات حاملا مصباحه في رابعة النهار،وبعضُ القوم يظنّ به سفاهة ومسّا، بيد أنّه ما ينفكّ يعلّل اصطحاب مصباح الحكمة قائلا:  « أبحث عن رجل » !

ومَثَل تونس عشيّة الرئاسيّات كمثل ديوجين، يدُها على مصباح الحكمة تَجهَد أن تستنير به في « ظلمة النهار » وتبحث عن نهار بلا ظلمة ، ويدها الأخرى قابضة على محفظته حيث أسرار دفائنه،و خزائن معرفته، وما تفتأ متكوّرة في « برميل » خشبيّ تجاهد ألاّ تُحجبَ عنه الشمسُ، وتكاد تصرخ وقد سيقت جارية إلى سوق النخاسة التي لا يرتادها غير الهجاج و الأنذال: « بيعوني لمن يريد له سيّدا » ..  ولعلّها تأبّطت عصاها، ولا ندري متى تنهال بها على « قطاع الطرق » من السفلة الذين تنادَوا لنهشها.. ودون هذا، ما تزال « كلبيّة » بالقسر ، تحيا على شظف العيش،خِلوا من  كلّ رفاه.. اجتمع عليها الطاعمون و الطامعون و مانعو « الماعون » ، في كلّ محفل يصرخون، بالوعود يُفيضون،و ماء الوجه يبدّدون..هذا يترك أريكته الوثيرة في عواصم الاستقلال « المضبّبة » ليستذكر قعود مؤخرته طفلا على الأحجار، وذاك يحشر جسده البرميليّ في هيأة قائد أو قوّاد صحراويّ، وثالث يتباكى من منفاه الاضطراريّ، ورابع يُزبد بلا زبد: »أحد أحد ! «   وخامس يرجو لنا نجاة وما هو بناج، وسادس يهمُّ بلا همّة، وخليفة يهذي بلا صولجان، وذو عمّة يسأل اللّه أن يفلق له الصحراء أنهارا تُروي أشجارا ولعلّها بقدرته جلّ و علا تستر عارا، وبهيّ يحشرج بعد دعاء الوقوف بلسانه الألكن تحت الأضواء، فلا يسعفه العيّ بعبارة « الملك الضليل » ذات معلّقة : قفا نبْـــــــكِ … و ذاك المنكوب في سجنه ينشد « روميّات » أبي فراس في « خرشنة  » البيزنطيّة و ينشرها على موجات نسائمه المشرّفة، وآخر وآخر …

والحقيقة التي أبان عنها مصباح ديوجين غير ما تهرف به مصابيح علاء الدين ..

و الحقيقة عارية لا ينكرها إلاّ ذو عين كليلة .. فالبرلمان القادم مِزق متذرّرة لا يشبه غير برلمان الصهاينة، و الأحزاب « الكبيرة » ذهبت مع أيّام  الإسكندر ،وقصر باردو سيتحوّل فنادق ينزلها السواح النواب بين الكتل و الأحزاب بحسب الأسعار في المواسم « التصويتية » ( من الأصوات و من التصويت)، وربّما تمنّى التركُ والطليان بعث ترويكا نهضوية تحياوية بدائليّة، ( وهو سرّ ابتعاد هذه الأطراف عن أيّ خطاب حادّ تجاه بعضها)، وليبيا « المسرّجة » في البال، أمّا الأمريكي و الفرنسيّ فلا يرتاحان لغير الخُلّص من الرجالات، بشهادة آل سعود و الإمارات ، وهو سياق الحفتريّات .. صحيح أنّ صوت النفير من الستّ عبير يربك بعض الحسابات، وأنّ ذاك المقرفص في برميل الفصاحة الجامد قد يبعثر جزئيّا التوازنات، ولكنّ الآلة الجهنّميّة تُعدّ العدّة و تشتغل ليلا نهارا لتيسير « ولادة بلا أوجاع »  و لإطفاء مصباح ديوجين ودفن محفظته التي لا تضمّ ورقاتها الناحلة غير أحلام الثوار ذات شتاء ديسمبريّ عنيد .

ديوجين حائر لأنّنا لا نقرّر بإرادتنا ،ومردّ الحيرة أنّ « جماعتنا » يوسعون مجال تدخل الأجنبيّ الذي يجد « متطوعين » لخدمته رغم انشغاله بما هو أخطر، وهو مآلات ربيع الجزائر و النزاع الليبي ،،فضلا عن مستنقع أزماته، وهو حائر أكثر ــــ ولذلك يصرّ على الإسكندر ألّا يحرمه الشمس ــــ من وقاحة حكام اليوم ( النهضة / النداء و توابعه) الذين يتجاهلون كلّيّا حصيلتهم الكارثيّة ويطمحون إلى التمكين.. مسكين ديوجين !

رحم الله الإسكندر ، زعموا في الأساطير أنه مات يوم موت ديوجين ..  زعموا أنّ  المقدوني كان  في سنّ الثلاثة والثلاثين، أمّا الكلبيّ فقد ناهز التسعين .. وزعموا أنّه قال :  لو لم أكن الإسكندر الكبير،لتمنّيتُ أن أكون ديوجين !

                              

تشاء الأقدار أن ألتقي منذ أيّام صديقا عتيقا، ومناضلا فذّا،هو الأستاذ (ر.س)، جامعيّ من أبناء القيروان الأصلاء،ممّن لا تستهويهم الجعجعات،ولا تغريهم العدسات. لكم أن تعدّوه من مناضلي « الظل » قياسا على « حكومات الظل » أو  مضارعة لــ « عصابات الظلّ و الذّلّ » .. وتشاء الأقدار أيضا أن يكون موضع اللقاء مقهى جنوبيّ العاصمة يحمل يافطة ضخمة تهاويلُ حروفِها المذهّبةُ عبارة « القصر الكبير » ..

يا لسخريّة اللغة !

في مقهى « القصر الكبير » كان لنا حديث قصير حول القصر الكبير.. دردشة محمودة اشترك فيها صديقان عزيزان آخران ،من أفذاذ الرجال ،يحمل كلّ منهما اسم « محمود » .. ولست أذكر ما الذي دعا صديقي إلى استعادة سيرة  « ديوجين »  المحمودة ،سوى قوله المشهور : « أبحث عن رجل » ! وفيم العجب؟ ألسنا في أيّام بحث القصر الكبير عن رجل..أو ربّما في أيّام بحث رجل (ما) عن القصر الكبير؟

لا داعي أن يغضب حماة النسويّة وفقهاء التحاليل الجندريّة، فديوجين قد قضى منذ ما يزيد عن ثلاث و عشرين قرنا، (الأرجح أنه عاش في ال ق3 قبل الميلاد) ولكنّ سيرته باتت ملهمة شأن الأساطير الإغريقيّة القديمة.. فقد زعموا أنّ هذا اليونانيّ رأسُ إحدى ثلاث مدارس متفرّعة عن « السقراطيّة » وهي الأبيقوريّة (نسبة إلى أبيقور) و الرُّواقيّة ( مؤسّسها زيتون السيشومي ) و المدرسة الكلبيّة التي كان ديوجين رائدَها .

ومبدأ « الكلبيين » الأساسيّ هو نشدانُ « الفضيلة » ولكنّهم يعتبرون أنّها لا توجد إلاّ خارج القانون والأعراف و التقاليد و لا يرون تحقّق « السعادة » إلاّ بازدراء الترف و مظاهر الثراء وبالعيش وفق ناموس الطبيعة .

وزعموا أنّ « ديوجين » قضى حياته يرتدي عباءة خشنة و يحمل عصا ولا تفارقه محفظةٌ !   أمّا « قصره الكبير » فكان « برميلا » خشبيّا ! أنفق « ديوجين » أيّامه يسكن برميله الضخم ، وزهد في لقاء الملوك والنبلاء ..وزعموا أنّ خبره بلغ « الإسكندر المقدوني » فجاءه إلى برميله ساعة استحمامه بالشمس ، وسأله إن كان يحتاج شيئا فقال : « ابتعد، إنّك تحجبُ عنّي ضوء الشمس » !

أمّا الآن، فقد استوطن « ديوجين » أرضنا، وما يزال حتّى اليوم لا يفارق برميله الغليظ الأخشب،   وما زال قوله المشهور ساعة أسرَهُ قطّاع طرق و قادوه ليُباع عبدا في سوق النخاسة مجلجلا :  « بيعوني لمن يريد سيّدا له » ! وما برح « ديوجين التونسيّ » يجوب الطرقات حاملا مصباحه في رابعة النهار،وبعضُ القوم يظنّ به سفاهة ومسّا، بيد أنّه ما ينفكّ يعلّل اصطحاب مصباح الحكمة قائلا:  « أبحث عن رجل » !

ومَثَل تونس عشيّة الرئاسيّات كمثل ديوجين، يدُها على مصباح الحكمة تَجهَد أن تستنير به في « ظلمة النهار » وتبحث عن نهار بلا ظلمة ، ويدها الأخرى قابضة على محفظته حيث أسرار دفائنه،و خزائن معرفته، وما تفتأ متكوّرة في « برميل » خشبيّ تجاهد ألاّ تُحجبَ عنه الشمسُ، وتكاد تصرخ وقد سيقت جارية إلى سوق النخاسة التي لا يرتادها غير الهجاج و الأنذال: « بيعوني لمن يريد له سيّدا » ..  ولعلّها تأبّطت عصاها، ولا ندري متى تنهال بها على « قطاع الطرق » من السفلة الذين تنادَوا لنهشها.. ودون هذا، ما تزال « كلبيّة » بالقسر ، تحيا على شظف العيش،خِلوا من  كلّ رفاه.. اجتمع عليها الطاعمون و الطامعون و مانعو « الماعون » ، في كلّ محفل يصرخون، بالوعود يُفيضون،و ماء الوجه يبدّدون..هذا يترك أريكته الوثيرة في عواصم الاستقلال « المضبّبة » ليستذكر قعود مؤخرته طفلا على الأحجار، وذاك يحشر جسده البرميليّ في هيأة قائد أو قوّاد صحراويّ، وثالث يتباكى من منفاه الاضطراريّ، ورابع يُزبد بلا زبد: »أحد أحد ! «   وخامس يرجو لنا نجاة وما هو بناج، وسادس يهمُّ بلا همّة، وخليفة يهذي بلا صولجان، وذو عمّة يسأل اللّه أن يفلق له الصحراء أنهارا تُروي أشجارا ولعلّها بقدرته جلّ و علا تستر عارا، وبهيّ يحشرج بعد دعاء الوقوف بلسانه الألكن تحت الأضواء، فلا يسعفه العيّ بعبارة « الملك الضليل » ذات معلّقة : قفا نبْـــــــكِ … و ذاك المنكوب في سجنه ينشد « روميّات » أبي فراس في « خرشنة  » البيزنطيّة و ينشرها على موجات نسائمه المشرّفة، وآخر وآخر …

والحقيقة التي أبان عنها مصباح ديوجين غير ما تهرف به مصابيح علاء الدين ..

و الحقيقة عارية لا ينكرها إلاّ ذو عين كليلة .. فالبرلمان القادم مِزق متذرّرة لا يشبه غير برلمان الصهاينة، و الأحزاب « الكبيرة » ذهبت مع أيّام  الإسكندر ،وقصر باردو سيتحوّل فنادق ينزلها السواح النواب بين الكتل و الأحزاب بحسب الأسعار في المواسم « التصويتية » ( من الأصوات و من التصويت)، وربّما تمنّى التركُ والطليان بعث ترويكا نهضوية تحياوية بدائليّة، ( وهو سرّ ابتعاد هذه الأطراف عن أيّ خطاب حادّ تجاه بعضها)، وليبيا « المسرّجة » في البال، أمّا الأمريكي و الفرنسيّ فلا يرتاحان لغير الخُلّص من الرجالات، بشهادة آل سعود و الإمارات ، وهو سياق الحفتريّات .. صحيح أنّ صوت النفير من الستّ عبير يربك بعض الحسابات، وأنّ ذاك المقرفص في برميل الفصاحة الجامد قد يبعثر جزئيّا التوازنات، ولكنّ الآلة الجهنّميّة تُعدّ العدّة و تشتغل ليلا نهارا لتيسير « ولادة بلا أوجاع »  و لإطفاء مصباح ديوجين ودفن محفظته التي لا تضمّ ورقاتها الناحلة غير أحلام الثوار ذات شتاء ديسمبريّ عنيد .

ديوجين حائر لأنّنا لا نقرّر بإرادتنا ،ومردّ الحيرة أنّ « جماعتنا » يوسعون مجال تدخل الأجنبيّ الذي يجد « متطوعين » لخدمته رغم انشغاله بما هو أخطر، وهو مآلات ربيع الجزائر و النزاع الليبي ،،فضلا عن مستنقع أزماته، وهو حائر أكثر ــــ ولذلك يصرّ على الإسكندر ألّا يحرمه الشمس ــــ من وقاحة حكام اليوم ( النهضة / النداء و توابعه) الذين يتجاهلون كلّيّا حصيلتهم الكارثيّة ويطمحون إلى التمكين.. مسكين ديوجين !

رحم الله الإسكندر ، زعموا في الأساطير أنه مات يوم موت ديوجين ..  زعموا أنّ  المقدوني كان  في سنّ الثلاثة والثلاثين، أمّا الكلبيّ فقد ناهز التسعين .. وزعموا أنّه قال :  لو لم أكن الإسكندر الكبير،لتمنّيتُ أن أكون ديوجين !

خالد كرونة ـــ كاتب من تونس