قليبية مرفأ صيد وشاطئ انتجاع ساحر تشرف عليهما قلعة بيزنطية شامخة واسمها انزياح لسانيّ من اسمها الرّومانيّ Clupea يختصّ سكّانها بالصّيد بحرا وبالنّجارة برًّا وهي من أهمّ مدن محافظة نابل تبعد عن العاصمة تونس حوالي105 كيلومترا وهي شبه جزيرة يلفّها البحر من جهات ثلاث وقد مرّت بالمدينة مختلف الحضارات التي حلّت بتونس فتركت بها آثارًا أَثْرَتها وجعلتها قطبًا سياحيّا مميّزًا للسكّان المحلّيين او للمصطافين الأجانب.. ولعلّك لا تدخل قليبية سائحًا إلاّ عبر قلعتها فخر أهلها وعلامتهم المميّزة لهم وهي عبارة عن برج شامخ على أرض صخريّة عالية(على ارتفاع زهاء 150م) تبلغ مساحته هكتارا ونصفَ الهكتار شيّده البونيّون أمراء البحر ليطوّره البيزنطيّون من بعدهم ليعيد تشييده الأغالبة والزّيريّون قُبيل القرن العاشر ميلاديّا ليصير البرجُ رِبَاطا حفصيّا في القرن الثّالث عشر . يختصم فيه العثمانيّون والإسبان ليلحقه تدميرٌ يدفع الدّولة العثمانية إلى إعادة بنائه قبل أن يدمّره الفرنسيّون ويحتلّه من بعدهم الطّليان فالألمان .. وقلعة قليبية بناء فريد يحصّنه سور ذو أبراج تستشعر حركةَ الأعداء ويتخلّل السّور بابان يُنفِذان إلى دهليز ينتهي عند ساحة فسيحة بها مبان مختلفة الأغراض ولعلّ أهمّها المعبد البيزنطيّ والصّهاريج الرّومانية والأحواض العثمانية وبجنوبيّ القلعة منارة يشرف منها الزّائر على منظر بديع للمدينة .. وبين تشييد وهدم احتفظت القلعة بذاكرة إنسانيّة اعتمل فيها المُتنافرون ليتكاملوا في ما ورثه القليبيّ وتظلّ درّتهم سامقة رغم الحيف تحرس ميناءً عتيدًا ومدينةً عامرةً…
بالميناء بواخر وسفنٌ وزوارقُ تتفاوت أحجامها وقيمتها ومهامّها في الإبحار فالبحر عظيم ولا يقوى على مناكفته ومزاحمته في الاستيلاء على خيراته إلاّ عظيم عزم كريم نفس. ويكتسي هذا المرفأُ أهمّيته الاقتصادية من عوائده ومنتوجه البحريّ البالغ خمسة عشر ألف طنّ علاوة على أنّه مَشغل غالبية السكّان والمصدر المركزيّ لغذاء البقية.. وعلى شاطئ قليبية المتراوح بين الرّمل والصّخر ينتجع المصطافون وهواةُ البحر وممسكو الصّنانير فالنّسائم هناك استثنائية والماء بلّوريّ نقيّ..
ولعلّه ممّا يشدّ الانتباه على صخرات الشّاطئ مطعم يشاكس البحر وموجَه المُتلاطم ذو شمسيّات كما أجنحة نسر بيضاء تترامى في اتّساق يدعو الأنفسَ إلى تلذّذ أطعمة يعدّها مختصّون خبراء فيأتي مرتادوه على أطباقهم على أنغام الموج والموسيقى التي يختار فِرَقها كريمُ “المنصورة” فتُشرَع الحواسّ هناك على الملذّات تُصيب منها أطايبها..
تمتدّ بقليبية مروج خصبة تسرّ النّاظرين تنتصب عليها نواعير الهواء الدوّارة فتمازج البُيوضةُ خُضرةَ المَرج وغيرَ بعيد زرقة بحر معطاء عديدةٌ منافعه.. أمّا المدينة فأحياؤها غير متباعدة تنشط فيها السُّوق والأحلام وتنبعث من أرجائها الفُنون فأهلها مَهُوسون بالجمال: موسيقى وغناءً وأدبًا وسينما وعلوما ورياضةً وصنائع وحرفًا وأغذيةً .. فالقليبيّ مولّعٌ بكلّ ما يفتح حياته على المباهج والاغتباط والسّرور فتُقام بلياليهم سُرادقاتٌ وخيماتٌ ومنصّاتٌ بالمقاهي والمطاعم للتمتّع بالموسيقى وإرخاء الموانع أمام الأجساد الرّاقصة..
بقليبية أهلٌ يعمّ وجوههم البِشرُ منصرفون إلى لذائذ الحياة أيّما انصراف وبها نسوةٌ كادحاتٌ ينوب عزمهنّ عن غياب الأب البحّار المُنفلت من عقود الاجتماع زمنًا بالبحر وزمنًا آخر يركب فيه زوارق الخيال دليله في ذلك بناتُ عنب تأبى الأحزانَ والكدرَ…
ومن يذكر قليبية يذكر كعكها الذي تنافس فيه منزل تميم وحمّام الغزاز في هدوء… تقتني السيّدة منهنّ حبوبَ الفارينة وتنشرها بعين الشّمس تجفّ حتّى تستويَ للطّحن مليًّا لتدرّ دقيقًا يُغربل بغرابيل صارمة.. تتناول السّيّدة مقدار الدّقيق المناسب لمُرادها من الكعك فتصفّيه وتصبّ فيه نصف مقداره زبدةً ذائبةً وربعَ مقدارها زيت زيتون وقرصةَ ملح وسكّرا مُذابا في ماء قليل وماء الورد العطر ثمّ تصبّ بعض الماء السّاخن لتجميع العجين ثمّ تضعه في كيس ليكمن مقدار نصف ساعةبعد عجنه وتنبري تُعدّ التّمر فتعجنه بعد إزاحة نواه وتعطيره بمسحوق قشر البرتقال وزيت الزّيتون وماء الزّهر .. ثمّ تتناول قطعة من العجين وتفطّرها طوليّا بأناملها أو بواسطة المُدلُك وتبرم قطعةً من معجون التّمر وتُمدّدها وسط فطير العجين ثمّ تلفّ العجين على التّمر وتبرمه ثمّ تقطعه بسكّين وتُدير القطعةَ وتلحم رأسيها لتحصل على كعكة تزيّنها بواسطة مِشبك وبعد أن تجمع كعكَها في طبق تقصد فرن الخبز وقد استعر بحطب الزّيتون حتى احمارّت جدرانه وسكن لهبُه وتشرع في تلصيق كعكاتها بجدار الفرن حتى تنضج دون أن تفقد بياضها فتنبعث من الفرن روائح شهيّة آسرة.. لكنّ كعك قليبية يكبر كعكَ منزل تميم حجمًا وقد يلوّنان بمزوّقات غذائية للفت الانتباه إلى الكعك حلوى العيد ومفخرة نابل كلّها.. أمّا الطّعم فأخبركم عنه بعد أذان المغرب بعد أن يستفزّني ويستفزّكم الانتظار أكثر فأكثر…
عمار التيمومي