بقلم: الناقد المسرحي العراقي عواد علي
تشكل ثيمة الانتظار ظاهرة لافتة في المسرح العالمي، وقد تناولها الكتّاب، من منظورات اجتماعية وسياسية وفلسفية مختلفة، في الكثير من النصوص المسرحية، ولعل أكثرها شهرةً نص “في انتظار غودو” لصوموئيل بيكيت. وفي المسرح العراقي اشتهرت مسرحية “في انتظار الأبناء الذين لن يعودوا إلى الوطن ثانيةً” لجليل القيسي، عام 1974، وهي تدور حول أب وأم ينتظران في المطار عودة ابنهما الجندي الأسير في فيتنام.
مؤخراً كتبت الفنانة والكاتبة الكردية العراقية كزيزة عمر علي مسرحية بعنوان “أحترق كالعنقاء”، أخرجها نژاد نجم لفرقة هوار المسرحية في كركوك، وأدتها هوار فارس على مسرح المركز الثقافي في المدينة، وهي من نوع مسرحية “الممثلة الواحدة”، وليس المونودراما (بمعنى مسرحية الشخصية الواحدة) كون الممثلة تؤدي فيها أكثر من شخصية. وتتناول حياة فنانة مسرحية تقضي سنوات من عمرها في انتظار الحبيب، تحوك ثياب العرس، مثل بنيلوبي التي تقضي سنينها العشرين في الغزل بانتظار عودة زوجها أوليس، في حين لا تجد من يحبها لذاتها كأنثى ويتخذها زوجةً بسبب الأعراف الاجتماعية البالية. إنها ضحية مجتمع منافق يقدم لها بعض أفراده باقات الورد بعد انتهائها من أداء أدوارها المسرحية، ويرون أن رغبتها في الحب والزواج لا معنى لها “ماذا تفعلين بالزواج.. أنت متزوجة من المسرح”!.
تتذكر هذه الفنانة، وهي تخاطب الجمهور، تجربتها في أحد عروضها المسرحية وتقول “في ذلك المساء لم تكن حياتي مثل حياة فتاة عادية. أتعلمون ماذا كنت في ذلك الحين؟ يمكن أن تتخيلوا: أستاذة، مديرة، أو وزيرة، أو لا أعرف، أنتم عليكم أن تعرفوا، أنا لا أعرف ماذا كنت. كلا، في ذلك الوقت لم أكن أياً من تلك المسميات، بل كنت عاشقةً، عاشقةً. هل هناك إنسان لم يتذوق طعم العشق؟ هل هناك أحد لا يعرف العشق، وماذا يعني العشق؟ إن من لا يعرف العشق لا يعرف معنى الحياة. كنت مثل مجنونة أعشقه واحترق لأجله”. وإذا كانت بنيلوبي تنظر حبيباً حقيقياً فإن بطلة “أحترق كالعنقاء” تنتظر وهماً، لذلك فهي عطشى دائماً، تطلب الماء فيأتيها من مكان غير محدد، وكأن السماء ترأف بها.
وفي موقف آخر تتذكر المخرج، وهو المعادل الموضوعي للحبيب المنتظر، “عندما كنت أستلم النص من مخرجي أجده ينتصب أمام ناظريّ. كنت أبدأ بقراءة النص مباشرةً، لا مرة ولا مرتين أو ثلاث أو أربع ولا عشر… كنت أنتظر تلك اللحظة ليراني، في كل الأوقات كان أمام عينيّ، بين زحمة الناس، بين تصفيق الجمهور، بين زهور الأحبة، هو فقط كان أمام نظري”. ثم تتساءل مع نفسها في مونولوج مؤلم “أما زلتِ تنتظرين؟ ألم تيأسي من كل هذا الانتظار؟ كفى، لا تنتظريه بعد اليوم… إلهي.. ربي هل سيأتي؟ ها هم أصدقاؤه حاضرون، لِمَ لم يحضر هو؟ ترى هل سيحضر؟ ماذا أفعل إذا حضر؟… يا مجنونة يكفي الانتظار”.
ومن بين الأدوار التي تتذكرها دور دزدمونة في مسرحية “عطيل” لشكسبير، فتستعيد أداءها في المشهد الآخير الذي يقتلها فيه عطيل:
“دزدمونة: أترید المجيء إلى السریر یا مولاي.
عطیل: هل صلیت اللیلة یا دزدمونة؟
دزدمونه: نعم يا سیدي.
ماذا..؟ القتل؟ إذن ليرحمني الرب… مع ذلك أتمنى أن لا تقتلني”.
وتنهي الفنانة حوارها بأن تشبه قصة حياتها بمقتل دزدمونة، وتناجي نفسها بآلام الانتظار والحب والشك والقتل.
كما تستذكر ملاحقة الإعلاميين لها وأسئلتهم عن تقييمها للمسرح الكردي، وعن الفنانين الذين تأثرت بهم، فتعتذر منهم بأنها لا تمتلك الوقت للاجابة عن مثل هذه الأسئلة “وضعي الصحي ليس بالتمام، الآن عدت من العزاء. أنتم أي قناة؟ أنا أصلا لا أريد أن أظهر في تلك القناة، ولا أريد أن أتحدث إليكم. أعطني الأسئلة وسأرد عليك بنفسي فيما بعد. وحين يلحون عليها بسؤالهم عمّن تأثرت به من الفنانين تصرخ في وجوههم “دعوني وشأني، لم أتأثر بأي فنان، لم يكتشفني أو يصنعني أحد، صنعت نفسي بنفسي، اجتهدت الليل والنهار حتى كونت اسمي، مأساة حياتي صنعتني. لقد تركت كل متع الحياة من أجل ما وصلت إليه الآن.
اشتغل المخرج نژاد نجم بحرفية عالية في تجسيد النص، مطلقاً لمخيلته العنان في بناء مشاهد العرض بناءً جذاباً، واستثمار فضاء الخشبة بحركات وتكوينات جمالية، مازجاً بين المنحى الطقسي (ذي الإيقاع الحزين) والمنحى التشكيلي/ الواقعي، مركزاً على أداء الممثلة في إطار سينوغرافي متقشف (من تصميمه وتنفيذ برهم ياسين) يتألف من قطع بسيطة (كرسي متحرك، وحقيبة سفر، ومرآة، ودف، وقبعة نسائية وأقمشة وأوراق…)، وإضاءة متقنة (هونر شوقي وعلي نوزاد) ذات مستويات دلالية معبرة عن طبيعة المشاهِد والمواقف الدرامية. وبرعت الممثلة هوار فارس في أداء أكثر من شخصية، فشدت الجمهور بإلقائها المؤثر لمونولوجاتها وسردها ورقصها وغنائها الذي يفطر القلب، ذلك الغناء المفعم بالشجن أحياناً والروح العرفانية لشعر جلال الدين الرومي أحياناً أخرى، بمصاحبة الموسيقى الحية التي أبدعها الملحن سيروان عمر، إلى جانب مؤثرات العرض الصوتية والموسيقية، في تناغم رائع مع ثيمة المسرحية وأجوائها.
*